نعتمد في شرحنا وتعاليقنا على « صناعة الغناء » لابن خلدون على النّص الذي قام بتحقيقه عبد السلام الشدادي (الدّار البيضاء، 2005) والنصّ الذي قام بتحقيقه ابراهيم شبّوح (2007).
تمثّل هذه النّسخة في هذا التّحقيق المخطوط ب
هَذِهِ الصِّنَاعَةُ هِيَ تَلْحِينُ الأَشْعَارِ المَوْزُونَةِ بِتَقْطِيعِ الأَصْوَاتِ عَلَى نِسَبٍ مُنَظَّمَةٍ مَعْرُوفَةٍ، يُوَقَّعُ كُلُّ صَوْتٍ مِنْهَا تَوْقِيعًا عِنْدَ قَطْعِهِ، فَيُكَوِّنُ نَغْمَةً، ثُمَّ تُؤَلَّفُ تِلْكَ النَّغَمُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ عَلَى نِسَبٍ مُتَعَارَفَةٍ فَيَلذُّ سَمَاعُهَا لِأَجْلِ التَّنَاسُبِ وَمَا يَحْدُثُ عَنْهُ مِنَ الكَيْفِيَّةِ فِي تِلْكَ الأَصْوَاتِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَبَيَّنَ فِي عِلْمِ المُوسِيقَى أَنَّ الأَصْوَاتَ تَتَنَاسَبُ لِيَكُونَ صَوْتٌ نِصْفُ صَوْتٍ، وَرُبُعَ آخَرَ، وَخُمُسَ آخَرَ، وَجُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ مِنْ آخَرَ. وَاخْتِلَافُ هَذِهِ النِّسَبِ عِنْد َتَأْدِيَتِهَا إِلَى السَّمْعِ يُخْرِجُهَا مِنَ البَسَاطَةِ إِلَى التَّرْكِيبِ. وَلَيْسَ كُلُّ تَرْكِيبٍ مِنْهَا مَلْذُوذاً عِنْدَ السَّمْعِ، بَلْ تَرَاكِيبٌ خَاصَّةٌ هِيَ الَّتِي حَصَرَهَا أَهْلُ عِلْم ِالمُوسِيقَى وَتَكَلَّمُوا عَلَيْهَا، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ. * لم يتعمّق ابن خلدون في علم الموسيقى في موضع آخر لكنه من المؤكّد أنّه قد كان ينوي التطرّق إلى هذا الموضوع ضمن تقديمه للعلوم وللعلوم العدديّة بصفة خاصّة، تبعا للعلوم المتعارف عليها، إلى جانب علم الأرثماطيقي، وعلم الهندسة وعلم الهيئة، حيث كان قد عرّف علم الموسيقى في هذا الصّدد : « وثالثها لعلم الموسيقى، وهو معرفة نسبة الأصوات والنّغم بعضها من بعض، وتقديرها بالعدد. وثمرته معرفة تلاحين الغناء. » (تحقيق الشدّادي، الجزء 3، ص. 72).
وَقَدْ يُسَاوِقُ ذَلِكَ التَّلْحِينَ فِي النَّغَمَاتِ الغِنَائِيَّةِ بِتَقْطِيعِ أَصْوَاتَ أُخْرَى مِنَ الُجَمادَاتِ * الجمادات، يقصد الآلات الصّناعيّة. إِمَّا بِالقَرْعِ أَوِ النَّفْخِ فِي آلَاتٍ تُتََّخَذُ لِذَلِكَ، فَتَزِيدُهَا لَذَّةً عِنْدَ السَّمْعِ.
فَمِنْهَا لِهَذَا العَهْدِ بِالمَغْرِبِ أَصْنَافٌ مِنْهَا الِمزْمَارُ، وَيُسَمُّونَهُ «الشَبَّابَةَ » وَهْيَ قَصَبَةٌ جَوْفَاءٌ بِأَبْخَاشَ فِي جَوَانِبِهَا مَعْدُودَةٌ، يُنْفَخُ فِيهَا فَتُصَوِّتُ وَيَخْرُجُ الصَّوْت ُمِنْ جَوْفِهَا عَلَى سُدَادَةٍ مِنْ تِلْكَ الأَبْخَاشِ، وَيُقْطَعُ الصَّوْتُ بِوَضْعِ الأَصَابِعِ مِنَ اليَدَيْنِ جَمِيعًا عَلَى تِلْكَ الأَبْخَاشِ وَضْعًا مُتَعَارَفًا حَتَّى تَحْدُثَ النِّسَب ُبَيْنَ الأَصْوَاتِ فِيهِ وَتَتَّصِلُ كَذَلِكَ مُتَنَاسِبَةً، * لا يأخذ ابن خلدون هنا بعين الاعتبار أنّ آلة الشّبابة تستعمل الترديدات الطبيعيّة للصّوت الأساسيّ (natural harmonics) فيقدّم النظريّة المتداولة على الآلات الوتريّة. فَيَلْتَذُّ السَّمْعُ بِإِدْرَاكِهَا لِلتَّنَاسُبِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
وَمِنْ جِنْسِ هَذِهِ الآلَةِ المِزْمَارُ الَّذِي يُسَمَّى « الزُّلَامِي »، وَهْيَ شَكْلُ القَصَبَةِ، مَنْحُوتَةُ الجَانِبَيْنِ مِنَ الخَشَبِ، جَوْفَاءُ مِنْ غَيْرِ تَدْوِيرٍ لِأَجْلِ ائْتِلَافِهَا فِي قِطْعَتَيْنِ، مَنْفُوذَةٌ كَذَلِكَ بِأَبْخَاشَ مَعْدُودَةٍ يُنْفَخُ فِيهَا بِقَصَبَةٍ صَغِيرَة تُوصَلُ، فَيَنْفُذُ النَّفْخُ بِوَاسِطَتِهَا إِلَيْهَا وَتُصَوَّتُ بِنَغْمَةٍ حَادَّةٍ وَيَْجرِي فِيهَا مِنْ تَقْطِيع ِالأَصْوَاتِ مِنْ تِلْكَ الأَبْخَاشِ بِالأَصَابِعِ مِثْلُ مَا يَجْرِي فِي الشَّبَّابَةِ.
وَمِنْ أَحْسَنِ آلَاتِ الزَّمْرِ لِهَذَا العَهْدِ « البُوقُ »، * أنظر أيضا ما يقوله بن خلدون في الفصل السّادس والثّلاثين « في شارات الملك والسلطان الخاصّة به ». وَهْوَ بُوقٌ مِنْ نُحَاسٍ أَجْوَفٍ فِي مِقْدَارِ الذِّرَاعِ، يَتَّسِعُ إِلَى أَنْ يَكُونَ انْفِرَاجُ مَخْرَجِهِ فِي مِقْدَارٍ دُونَ الكَفِّ، فِي شَكْلِ بَرْيِ القَلَمِ، وَيُنْفَخُ فِيهِ بِقَصَبَة ٍصَغِيرَةٍ تُؤَدِّي الرِّيحَ مِنَ الفَمِ إِلَيْهِ، فَيَخْرُجُ الصَّوْتُ ثَخِينًا دَوِيًّا، وَفِيهِ أَبْخَاشٌ أَيْضًا مَعْدُودَةٌ، وَتُقْطَعٌ نَغَمُهُ مِنْهَا كَذَلِكَ بِالأَصَابِعِ عَلَى التَّنَاسُبِ فَيَكُونُ مَلْذُوذًا.
وَمِنْهَا آلَاتُ الأَوْتَارُ، وَهْيَ جَوْفَاءٌ كُلُّهَا، إِمَّا عَلَى شَكْلِ قِطْعَةٍ مِنَ الكُرَةِ كَالبَرْبَطِ وَالرَّبَابِ، أَوْ عَلَى شَكْلِ مُرَبَّعٍ، كَالقَانُونِ، تُوضَعُ الأَوْتَارُ عَلَى بَسَائِطِهَا مَشْدُودَةٌ فِي رَأْسِهَا إِلَى دَسَاتِرَ جَائِلَةٍ لِيَتَأَتَّى شَدُّ الأَوْتَارِ وَرَخْوِهَا عِنْدَ الحَاجَةِ إِلَيْهِ بِإِدَارَتِهَا. ثُمَّ تُقْرَعُ الأَوْتَارُ إِمَّا بِعُودٍ آخَرَ أَوْ بِوَتَرٍ مَشْدُودٍ بَيْنَ طَرَفَي ْقَوْسٍ يَمُرُّ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ يُطْلَى بِالشَّمْعِ وَالكَنْدَرِ، وَيُقْطَعُ الصَّوْتُ فِيهِ بِتَخْفِيفِ اليَدِ فِي إِمْرَارِهِ أَوْ بِنَقْلِهِ مِنْ وَتَرٍ إِلَى وَتَرٍ، وَاليَدُ اليُسْرَى مَعَ ذَلِكَ فِي جَمِيع ِآلَات الأَوْتَارِ تُوقِعُ بِأَصَابِعِهَا عَلَى أَطْرَافِ الأَوْتَارِ فِيمَا يُقْرَعُ أَوْ يُحَكُّ بِالوَتَرِ، فَتَحْدُثُ الأَصْوَاتُ مُتَنَاسِبَةً مَلْذُوذَةً.
وَقَدْ يَكُونُ القَرْعُ فِي الطُّسُوتِ بِالقُضْبَانِ أَوْ فِي الأَعْوَادِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ عَلَى تَوْقِيعٍ مُنَاسِبٍ يَحْدُثُ عَنْهُ الْتِذَاذُ بِالمَسْمُوعِ.
وَلْنُبَيِّنْ لَكَ السَّبَبَ فِي اللَّذَّةِ النَّاشِئَةِ عَنِ الغِنَاءِ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّذَّةَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ هِي َإِدْرَاكُ المُلَائِمِ. وَالمَحْسُوسُ إِنَّمَا تُدْرَكُ مِنْهُ كَيْفِيَّةٌ، فَإِذَا كَانَتْ مُنَاسِبَةً لِلْمُدْرَكِ وَمُلَائِمَةً، كَانَت ْمَلْذُوذَةً، وَإِذَا كَانَتْ مُنَافِيَةً لَهُ، مُنَافِرَةً، كَانَتْ مُؤْلِمَةً. فَالمُلَائِمُ مِنَ الطُّعُومِ مَا نَاسَبَت ْكَيْفِيَّتُهُ حَاسّةَ الذَّوْقِ فِي مِزَاجِهَا وَكَذَا المُلَائِمُ مِنَ المَلْمُوسَاتِ. وَفِي الرَّوَائِحِ مَا نَاسَبَ مِزَاج َالرُّوحِ القَلْبِيِّ البُخارِيِّ، لِأَنَّهُ المُدْرَكُ وَإِلَيْهِ تُؤَدِّيهِ الحَاسَّةُ. وَلِهَذَا كَانَتْ الرَّيَّاحِينُ وَالأَزْهَارُ العَطْرِيَّاتُ أَحْسَنَ رَائِحَةً وَأَشَدَّ مُلَاءَمَةً لِلرُّوحِ لِغَلَبَةِ الحَرَارَةِ فِيهَا الَّتِي هِيَ مِزَاجُ الرُّوح ِالقَلْبِيِّ. وَأَمَّا المَرْئِيَّاتُ وَالمَسْمُوعَاتِ فَالمُلَائِمُ فِيهَا تَنَاسُبُ الأَوْضَاعِ فِي أَشْكَالِهَا وَكَيْفِيَّاتِهَا، فَهْوَ أَنْسَبُ عِنْدَ النَّفْسِ وَأَشَدُّ مُلَاءَمَةً لَهَا. فَإِذَا كَانَ المَرْئِيُّ مُتَنَاسِبًا فِي أَشْكَالِهِ وَتَخَاطِيطِه ِالَّتِي لَهُ بِحَسَبِ مَادَّتِهِ بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ عَمَّا تَقْتَضِيهِ مَادَّتُهُ الخَاصَّةُ مِنْ كَمَالِ المُنَاسَبَةِ وَالوَضْعِ، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الجَمَالِ وَالحُسْنِ فِي كُلِّ مُدْرَكٍ، كَانَ ذَلِكَ حِينَئِذٍ مُنَاسِبًا لِلنَّفْسِ المُدْرِكَةِ فَتَلْتَذُّ بِإِدْرَاكِ مُلَائِمِهَا. * تعمّق ابن رشد في دراسة الحواسّ تبعا للنظريّة الأرسطيطاليّة (أنظر تلخيص كتاب النّفس، المعهد الإسباني العربي للثقافة، 1985)، لكنّ مقاربة ابن خلدون مختلفة فهي تفسّر اللّذّة بإدراك تلاؤم المحسوس مع ماهو في النّفس أي في الطّبع.
وَلِهَذَا تَجِدُ العَاشِقِينَ المُسْتَهْتِرِينَ فِي المَحَبَّةِ يُعَبِّرُونَ عَنْ غَايَةِ مَحَبَّتِهِمْ وَعِشْقِهِمْ بِامْتِزَاج ِأَرْوَاحِهِمْ بِرُوحِ المَحْبُوبِ. [وَفِي هَذَا سِرٌّ تَفْهَمُهُ إِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِهِ، وَهْوَ اتِّحَادُ المَبْدَإِ وَأَنَّ كَلَّ مَا سِوَاكَ إِذَا نَظَرْتَهُ وَتَأَمَّلْتَهُ رَأَيْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ اتّحَادًا فِي البِدَايَةِ، يَشْهَدُ لَكَ بِهِ اتِّحَادُكُمَا فِي الكَوْنِ (مخطوط ب)] وَمَعْنَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ الوُجُودَ يَشْتَرِكُ بَيْنَ المَوْجُودَاتِ كَمَا يَقُولُهُ الحُكَمَاءُ، فَتَوَدُّ أَنْ تَمْتَزِجَ بِمَا شَهِدْتَ فِيهِ الكَمَال لِتِتَّحِدَ بِهِ. [بَلْ تَرُومُ النَّفْسُ حِينَئِذٍ الخُرُوج َعَنِ الوَهْمِ إِلَى الحَقِيقَةِ الَّتِي هِيَ اتِّحَادُ المَبْدَإِ وَالكَوْنِ. (مخطوط ب)]. وَلَمَّا كَانَ أَنْسَبُ الأَشْيَاءِ إِلَى الإِنْسَانِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى أَنْ يُدْرِكَ الكَمَالَ فِي تَنَاسُبِ مَوْضُوعِهَا هُوَ شَكْلُهُ الإِنْسَانِيُّ، فَكَانَ إِدْرَاكُهُ لِلْجَمَالِ وَالحَسَنِ فِي تَخَاطِيطِهِ وَأِصْوَاتِهِ مِنَ المَدَارِكِ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ إِلَى فِطْرَتِهِ، فَيَلْهَجُ كُلُّ إِنْسَانٍ بِالحَسَنِ المَرْئِيِّ أَوِ المَسْمُوعِ بِمُقْتَضَى الفِطْرَةِ.
والحَسَنُ فِي المَسْمُوعِ أَنْ تَكُونَ الأَصْوَاتُ مُتَنَاسِبَةً لَا مُتَنَافِرَةً، وَذَلِكَ أَنَّ الأَصْوَاتَ لَهَا كَيْفِيَّاتٌ مِن َالهَمْسِ وَالجَهْر وَالرّخَاوَةِ وَالشِّدَّةِ وَالقَلْقَلَةِ وَالضَّغْطِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالتَّنَاسُبُ فِيهَا هُوَ الَّذِي يُوجِب ُلَهَا الحُسْنَ. فَأَوَّلًا أَنْ لَا يَخْرُجَ (مخطوط ب : فالتناسب فيها أن لا يخرج) مِنَ الصَّوْتِ إِلَى ضِدِّه ِدُفْعَةً بَلْ بِتَدْرِيجٍ، ثُمَّ يَرْجِعُ كَذَلِكَ، وَهَكَذَا إِلَى المِثْلِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَوَسُّطِ المُغَايِرِ بَيْن َالصَّوْتَيْنِ، وَتَأَمُّلُ هَذَا مِنْ اسْتِقْبَاحِ أَهْلِ اللّسَانِ التَّرَاكِيبَ مِنَ الحُرُوفِ المُتَنَافِرَةِ أَو ِالمُتَقَارِبَةِ المَخَارِجِ، فَإِنَّهُ مِنْ بَابِهِ. وَثَانِيًا، تَنَاسُبُهَا بِالأَجْزَاءِ كَمَا مَرَّ أَوَّلَ البَابِ، فَيَخْرُج ُمِنَ الصَّوْتِ إِلَى نِصْفِهِ أَوْ ثُلُثُهِ أَوْ جُزْءٍ مِنْ كَذَا مِنْهُ، عَلَى حَسَبِ مَا يَكُونُ التَّنَقُّلُ مُتَنَاسِبًا عَلَى مَا حَصَرَهُ أَهْلُ الصِّنَاعَةِ. فَإِذَا كَانَتِ الأَصْوَاتُ عَلَى تَنَاسُبٍ فِي الكَيْفِيَّاتِ، كَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ تِلْك َالصّنَاعَةِ، كَانَتْ مُلَائِمَةً مَلذُوذَةً.
وَمِنْ هَذَا التَّنَاسُبِ مَا يَكُونُ بَسِيطًا وَيَكُونُ الكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ مَطْبُوعِينَ عَلَيْهِ، لَا يَحْتَاجُونَ فِيه ِإِلَى تَعْلِيمٍ وَلَا صِنَاعَةٍ كَمَا نَجِدُ المَطْبُوعِينَ عَلَى المَوَازِينِ الشِّعْرِيَّةِ وَتَوْقِيعِ الرَّقْصِ وَأَمْثَال ِذَلِكَ. وَتُسَمِّي العَامَّةُ هَذِهِ القَابِلِيّةَ بِـ « المِضْمَارِ ». وَكِثِيرًا مِنَ القُرَّاءِ بِهَذِهِ المَثَابَةِ، يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ فَيُجِيدُونَ فِي تَلَاحِينِ أَصْوَاتِهِمْ كَأَنَّهَا المَزَامِيرُ، فَيُطْرِبُونَ بِحُسْنِ مَسَاقِهِمْ وَتَنَاسُب ِنَغَمَاتِهِمْ. وَمِنْ هَذَا التَّنَاسُبِ مَا يَحْدُثُ بِالتَّرْكِيبِ وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَسْتَوِي فِي مَعْرِفَتِهِ وَلَا كُل ُّالطِّبَاعِ تُوَافِقُ صَاحِبَهَا فِي العَمَلِ بِهِ إِذَا عَلِمَ. وَهَذَا هُوَ التَّلْحِينُ الَّذِي يَتَكَفَّلُ بِهِ عِلْم ُالمُوسِيقَى كَمَا نَشْرَحُهُ بَعْدُ عِنْدَ ذِكْرِ العُلُومِ. * لا يتعرّض ابن خلدون لموضوع الموسيقى.
وَقَدْ أَنْكَرَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى القِرَاءَةَ بِالتَّلْحِينِ، وَأَجَازَهَا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَلَيْسَ المُرَادُ تَلْحِينُ المُوسِيقَى الصِّنَاعِيِّ، * يقصد هنا قراءة القرآن باستعمال الألات الموسيقيّة الصناعيّة، غير صوت الإنسان. فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي حَظْرِهِ، إِذْ صِنَاعَةُ الغِنَاءِ مُبَايِنَةٌ لِلْقُرْآنِ، لِأَنَّ القِرَاءَةَ وَالأَدَاء َيَحْتَاجُ إِلَى مِقْدَارٍ مِنَ الصَّوْتُ يَتَعَيَّنُ أَدَاءَ الحُرُوفِ بِهِ مِنْ حَيْثُ اتِّبَاعُ الحَرَكَاتِ فِي مَوَاضِعِهَا، وَمِقْدَارِ المَدِّ عِنْدَ مَنْ يُطِيلُهُ أَوْ يُقَصِّرُهُ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، وَالتَّلْحِينُ أَيْضًا يَتَعَيَّنُ لَهُ مِقْدَارٌ مِن َالصَّوْتِ لَا تَتَمُّ إِلَّا بِهِ مِنْ أَجْلِ التَّنَاسُبِ الَّذِي قُلْنَاهُ فِي حَقِيقَةِ التَّلْحِينِ، فَاعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا قَد ْيُخِلُّ بِالآخَرِ إِذَا تَعَارَضَا، وَتَقْدِيمُ التِّلَاوَةِ (الرّواية)، مُتَعَيِّنٌ فِرَارًا مِنْ تَغْيِيرِ الرِّوَايَة ِالمَنْقُولَةِ فِي القُرْآنِ، فَلَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُ التَّلْحِينِ وَالأَدَاءِ المُعْتَبَرِ فِي القُرآنِ بِوَجْهٍ.
إِنَّمَا مُرَادُهُمُ التَّلْحِينُ البَسِيطُ الَّذِي يَهْتَدِي إِلَيْهِ صَاحِبُ المِضْمَارِ بِطَبْعِهِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ، فَتُرَدََّدُ أَصْوَاتُهُ تَرْدِيدًا عَلَى نِسَبٍ يُدْرِكُهَا العَالِمُ بِالغِنَاءِ وَغَيْرِهِ (وَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ بِوَجْهٍ كَمَا قَالَه ُمَالِك)، هَذَا هُوَ مَحَلُّ الخِلَافِ. وَالظَّاهِرُ تَنْزِيهُ القُرْآنِ مِنْ هَذَا كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الإِمَامُ رَحِمَه ُاللَّهِ، لِأَنَّ القُرْآنَ مَحَلُّ خُشُوعٍ بِذِكْرِ المَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ، وَلَيْسَ مَقَامَ الْتِذَاذٍ بِإِدْرَاكِ الحَسَنِ مِن َالأَصْوَاتِ. وَهَكَذَا كَانَتْ قِرَاءَةُ الصَّحَابَةِ كَمَا فِي أَخْبَارِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلِيْهِ وَسَلَّمَ : « لَقَدْ أُُوتِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُودَ » فَلَيْسَ المُرَادُ بِهِ التَّرْدِيدُ وَالتَّلْحِينُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاه ُحُسْنُ الصَّوْتِ وَأَدَاءُ القِرَاءَةِ وَالإِبَانَةِ فِي مَخَارِجِ الحُرُوفِ وَالنُّطْقِ بِهَا.
وَإِذَا قَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى الغِنَاءِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَحْدُثُ فِي العُمْرَانِ إِذَا تَوَفَّرَ وَتَجَاوَزَ حَدَّ الضَّرُورِيِّ إِلَى الحَاجِيِّ، ثُمَّ إِلَى الكَمَالِيِّ، وَتَفَنَّنُوا فِيهِ، فَتَحْدُثُ هَذِهِ الصِّنَاعَةُ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَدْعِيهَا إِلَّا مَن ْفَرِغَ عَنْ جَمِيعِ حَاجَاتِهِ الضَّرُورِيَّةِ وَالمُهِمَّةِ مِنَ المَعَاشِ وَالمَنْزِلِ وَغَيْرِهِ، فَلَا يَطْلُبُهَا إِلَّا الفَارِغُونَ عَنْ سَائِرِ أَحْوَالِهِمْ تَفَنُّنًا فِي مَذَاهِبِ المَلْذُوذَاتِ. وَكَانَ فِي سُلْطَانِ العَجَمِ قَبْلَ المِلَّة ِمِنْهَا بَحْرًا زَاخِرًا فِي أَمْصَارِهِمْ وَمُدُنِهِمْ. وَكَانَ مُلُوكُهُمْ يَتَّخِذُونَ ذَلِكَ وَيُولَعُونَ بِهِ، حَتَّى لَقَدْ كَان َلِمُلُوكُ الفُرْسِ اهْتِمَامٌ بِأَهْلِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ، وَلَهُمْ مَكَانٌ فِي دَوْلَتِهِمْ، وَكَانُوا يَحْضِرُونَ مَشَاهِدَهُم ْوَمَجَامِعَهُمْ وَيُغَنُّونَ فِيهَا. وَهَذَا شَأْنُ العَجَمِ لِهَذَا العَهْدِ فِي كُلِّ أفُقٍ مِنْ آفَاقِهِمْ وَمَمْلَكَةٍ مِن ْمَمَالِكِهِمْ.
وَأَمَّا العَرَبُ فَكَانَ لَهُمْ أَوَّلًا فَنُّ الشِّعْرِ يُؤَلِّفُونَ فِيهِ الكَلَامَ أَجْزَاءً مُتَسَاوِيَةً عَلَى تَنَاسُبٍ بَيْنَهَا فِي عِدَّةِ حُرُوفِهَا المُتَحَرِّكَةِ وَالسَّاكِنَةِ، وَيُفَصِّلُونَ الكَلَامَ فِي تِلْكَ الأَجْزَاءِ تَفْصِيلًا يَكُونُ كُلُّ جُزْء ٍمِنْهَا مُسْتَقِلًّّا بِالإِفَادَةِ، لَا يَنْعَطِفُ عَلَى الآخَرِ، وَيُسَمُّونَهُ البَيْتَ، فَيُلَائِمُ الطَّبْعَ بِالتَّجْزِئَةِ أَوَّلًا ثُمَّ بِتَنَاسُبِ الأجْزَاءِ فِي المَقَاطِعِ وَالمَبَادِئِ، ثُمَّ بِتَأْدِيَةِ المَعْنَى المَقْصُودِ وَتَطْبِيقِ الكَلَامِ عَلَيْهِ، فَلَهَجُوا بِهِ، وَامْتَازَ مِنْ بَيْنِ كَلَامِهِمْ بِحَظٍّ مِنَ الشَّرَفِ لَيْسَ لِغَيْرِهِ لِأَجْلِ اخْتِصَاصِهِ بِهَذَا التَّنَاسُبِ، وَجَعَلُوهُ دِيوَانًا لِأَخْبَارِهِمْ وَحِكَمِهِمِ وَشَرَفِهِمْ، وَمِحَكًّا لِقَرَائِحِهِمْ فِي إِصَابَةِ المَعَانِي وَإِجَادَة ِالأَسَالِيبِ، وَاسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ.
وَهَذَا التَّنَاسُبُ الَّذِي مِنْ أَجْلِ الأَجْزَاءِ وَالمُتَحَرَّكِ وَالسَّاكِنِ مِنَ الحُرُوفِ قَطْرَةٌ مِنْ بَحْرِ تَنَاسُب ِالأَصْوَاتِ كَمَا هُو مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ المُوسِيقَى. * في النّصّ « كتاب الموسيقى ». إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَشْعُرُوا بِمَا سِوَاهُ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ لَمْ يَنْتَحِلُوا عِلْمًا وَلَا عَرَفُوا صِنَاعَةً، وَكَانَت ِالبَدَاوَةُ أَغْلَبُ نَحْلِهِمْ، ثُمَّ تَغَنَّى الحُدَاةُ مِنْهِم فِي حِدَاءِ إِبِلِهِمْ وَالفَتَيَانُ فِي قَضَاءِ خُلْوَاتِهِمْ، فَرَجَّعُوا الأَصْوَاتَ وَتَرَنَّمُوا.
وَكَانُوا يُسَمُّونَ التَّرَنُّمَ إِذَا كَانَ بِالشِّعْرِ غِنَاءً وَإِذَا كَانَ بِالتَّهْلِيلِ أَوْ نَوْعِ القِرَاءَةِ تَغْبِيرًا بِالغَيْنِ المُعَجَّمَةِ وَالبَاءِ المُوَحَّدَةِ، وَعَلُّّلَهَا أَبُو إِسْحَاقَ الزََّجََّاج * نحوي من العصر العبّاسي، توفّي سنة 925 م. بِأَنَّهَا تُذَكِّرُ بِالغَابِرِ، وَهْوَ البَاقِي، أَيْ بِأَحْوَالِ الآخِرَةِ، وَرُبَّمَا نَاسَبُوا فِي غِنَائِهِمْ بَيْنَ نَغَمَاتٍ مُنَاسِبَةٍ بَسِيطَةٍ، كَمَا ذَكَرَهُ ابنُ رَشِيقٍ آخِرَ كِتَابِ العُمْدَةِ وَغَيْرِهِ، وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ « السِّنَادَ »، وَكَانَ أَكْثَرَ مَا يَكُونُ مِنْهُمْ فِي الخَفِيفِ الَّذِي يُرْقَصُ عَلَيْهِ وَيَمْشِي بِالدُّفِّ وَالمِزْمَارِ فَيُطْرِبُ وَيَسْتَخِفُّ الحَلُومَ، وَكَانُوا يُسَمُّونَ هَذَا « الهَزَجَ »، وَهذَا البَسِيطُ كُلُّهُ مِنَ التَّلَاحِينِ هُو مِنْ أَوَائِلِهَا، وَلَا يَبعُدُ أَنْ تَتَفَطَّّنَ لَهُ الطِّبَاعُ مِنْ غَيْر تَعْلِيمٍ، شَأُنُ البَسَائِطِ كَلِّهَا مِنَ الصَّنَائِعِ، وَلَمْ يَزَلْ هَذَا شَأْنُ العَرَبِ فِي بَدَاوَتِهِمْ وَجَاهِلِيَّتِهِمْ.
فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلَامُ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى مَمَالِكِ الدُّنْيَا وَحَازُوا سُلْطَانَ العَجَمِ وَغَلَبُوهُمْ عَلَيْهِ وَكَانُوا مِنَ البَدَاوَةِ وَالغَضَاضَةِ عَلَى الحَالِ الَّتِي عُرِفَتْ لَهُمْ، مَعَ غَضَارَةِ الدِّينِ وَشِدَّتِهِ فِي تَرْكِ أَحْوَال ِالفَرَاغِ وَمَا لَيْسَ بِنَافِعٍ فِي دِينٍ وَلَا مَعَاشٍ، فَهُجِرَ ذَلِكَ شَيْئًا مَّا، وَلَمْ يَكُنِ المَلْذُوذُ عِنْدَهُمْ إِلَّا تَرْجِيعُ القِرَاءَةِ وَالتَّرَنُمِ بِالشِّعْرِ الَّذِي كَانَ دَيْدَنَهُمْ وَمَذْهَبَهُمْ. فَلَمَّا جَاءَهُمُ التَّرَفُ وَغَلَبَ عَلَيْهِم ْالرَّفْهُ بِمَا حَصُلَ لَهُمْ مِنْ غَنَائِمِ الأُمَمِ، صَارُوا إِلَى نَصَارَةِ العَيْشِ وَرِقَّةِ الحَاشِيَةِ وَاسْتِحْلَاء ِالفَرَاغِ، وَافْتَرَقَ المُغَنُّونَ مِنَ الفُرْسِ وَالرُّومِ فَوَقَعُوا إِلَى الحِجَازِ وَصَارُوا مَوَالِي لِلْعَرَبِ وَغَنَّوْا جَمِيعًا بِالعِيدَانِ وَالطَّنَابِيرِ وَالمَعَازِفِ وَالمَزَامِيرِ، وَسَمِعَ العَرَبُ تَلْحِينَهُمْ لِلْأَصْوَاتِ فَلَحَّنُوا عَلَيْهَا أَشْعَارَهُمْ، وَظَهَرَ بِالمَدِينَةِ نَشِيط الفَارِسِيّ وَطُوَيس وَسَائِب بنُ جَابِر مَولَى عُبَيْد اللَّه بن ُجَعفَر، فَسَمِعُوا شِعْرَ العَرَبِ وَلَحَّنُوهُ وَأَجَادُوا فِيهِ وَطَارَ لَهُمْ ذِكْرٌ، ثُمَّ أَخَذَ عَنْهُمْ مَعْبَد وَطَبَقَتُه ُوابْنُ سُرَيج وَأَنْظَارُهُ.
وَمَا زَالَتْ صِنَاعَةُ الغِنَاءِ تَتَدَرَّجُ إِلَى أَنْ كَمُلَتْ أَيَّامَ بَنِي العَبَّاسِ عِنْدَ إبرَاهِيمَ بن المَهْدِي َّوَإبراهيم المَوصِليِّ وَابنِهِ إسحاق وابنِه حَمَاد، وَكَانَ مِنْ ذَلِكَ فِي دَوْلَتِهِم بِبَغْدِادِ مَا تَبِعَه ُالحَدِيثُ بَعْدَهُ بِهِ وَبِمَجَالِسِهِ بِهَذَا العَهْدِ، وَأَمْعَنُوا فِي اللَّهْوِ وَاللِّعِبِ وَاتُّخِذَتْ آلَاتُ الرَّقْصِ فِي المَلْبَسِ وَالقُضْبَانِ والأَشْعَارِ الَّتِي يُتَرَنَّمُ بِهَا عَلَيْهِ، وَجُعِلَ صِنْفًا وَحْدَهُ، وَاتُّخِذَتْ آلَاتٌ أُخْرَى لِلرَّقْصِ تُسَمَّى بـ « الكُرَّج » وَهْي تَمَاثِيلُ خَيْلٍ مُسَرَّجَةٍ مِنَ الخَشَبِ، مُعَلَّقَةٌ بِأَطْرَافِ أَقْبِيَةٍ تَلْبَسُهَا النِّسْوَانُ وَيُحَاكُونَ بِهَا امْتِطَاءَ الخَيْلِ، فَيَكُرُّونَ وَيَفِرُّونَ وَيَتَثَاقَفُونَ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ اللَّعِب ِالمُعدَّةِ لِلْوَلَائِمِ وَالأَعْرَاسِ وَأَيَّامِ الأَعْيَادِ وَمَجَالِسِ الفَرَاغِ وَاللَّهْوِ. وَكَثُرَ ذَلِكَ بِبَغْدَادَ وَأَمْصَار ِالعِرَاقِ وَانْتَشَرَ مِنْهَا فِيمَا سِوَاهَا.
وَكَانَ لِلْمَوْصِلِيِّينَ غُلَامٌ اسْمُهُ زِرْيَاب أَخَذَ عَنْهُمُ الغِنَاءَ فَأَجَادَ فَصَرَفُوهُ إِلَى المَغْرِبِ غَيْرَةً مِنْهُ، فَلَحِقَ بِالحَكَمِ بن هِشَام بن عبد الرّحمَان الدّاخِل أَمِيرِ الأندلس، فَبَالَغَ فِي تَكْرِمَتِهِ وَرَكِب َلِلِقَائِهِ، وَأَسْنِى لَه الجَوَائِزَ وَالإِقْطاعَاتِ وَالجِرَايَاتِ، وَأَحَلَّهُ مِنْ دَوْلَتِهِ وَنُدَمَائِهِ بِمَكَانٍ. * كما نصّ عليه عبد السلام الشدادي، وصل زرياب إلى الأندلس سنة 822، سنة وفاة الحَكَم بن هشام. من المرجّح أن يكون بنه عبد الرّحمان الثّاني هو الذي استقبله ولكنّه كان قد راسل الحَكَم طالبا منه المكوث بقرطبة. لكنّ زرياب كان قد أمضى بضعة أشهر بالقيروان قبل الرحيل إلى الأندلس. فَأَوْرَثَ بِالأَنْدَلُسِ مِنْ صِنَاعَةِ الغِنَاءِ مَا تَنَاقَلُوهُ إِلَى أَزْمَانِ الطَّوَائِفِ. وَطَمَا مِنْهَا بِإِشْبِيلِيَّة َبَحْرٌ زَاخِرٌ وَتَنَاقَلَ مِنْهَا بَعْدَ ذَهَابِ غَضَارَتِهَا إِلَى بِلَادِ العُدْوَةِ بِإِفْرِيقِيَّةَ وَالمَغْرِبِ، وَانْقَسَمَ إِلَى أَمْصَارِهَا، وَبِهَا الآنَ مِنْهَا صُبَابَةٌ عَلَى تَرَاجُعِ عِمْرَانِهَا وَتَنَاقُصِ دُوَلِهَا.
وَهَذِهِ الصِّنَاعَةُ آخِرُ مَا يَحْصُلُ فِي العُمْرَانِ مِنَ الصَّنَائِعِ، لِأَنَّهَا كَمَالِيَّةٌ، فِي غَيْرِ وَظِيفَةٍ مِن َالوَظَائِفِ إِلَّا وَظِيفَةَ الفَرَاغِ وَالفَرَحِ، وَهْيَ أَيْضًا أَوَّلُ مَا يَنْقَطِعُ مِنَ العُمْرَانِ عِنْدَ اخْتِلَالِه ِوَتَرَاجُعِهِ، وَاللَّهُ الخَلَّاقُ العَلِيمُ.