أنس غراب
إعداد النّسخة الرّقميّة الأوّليّة

كتاب التّاج في أخلاق الملوك

أبو عثمان عمر بن بحر الفُقيمي البصري الجاحظ

  • مكتبة توبكابي ساراي - اسطنبول (تركيا) : MS. A. 241714b-57a
    • بداية النصّ : و اذا قدانتهينا إلى هذا القانون من القول فبنا حاجة إلى الأخبار عن مراتب الطبقات الثلاث من الندماء و المغنين
    • آخر النصّ : فاكتب عليه واحتضنه المأمون وادناه و اقبل عليه بوجهه مصفيا اليه ومسرورا بهو

محتوى النصّ

  • [باب في المنادمة]

[باب في المنادمة]

باب في المنادمة

طبقات الندماء

ومن أخلاق الملك أن يجعل ندماءه طبقات ومراتب، وأن يخص ويعم، ويقرب ويباعد، ويرفع ويضع، إذ كانوا على أقسامٍ وأدوات.

فإنا قد نرى الملك يحتاج إلى الوضيع للهوه، كما يحتاج إلى الشجاع لبأسه، ويحتاج إلى المضحك لحكايته، كما يحتاج إلى الناسك لعظته، ويحتاج إلى أهل الهزل، كما يحتاج إلى أهل الجد والعقل ويحتاج إلى الزامر المطرب، كما يحتاج إلى العالم المتقن.

وهذه أخلاق الملوك، أن يحضرهم كل طبقةٍ، إذ كانوا ينصرفون من حال جدٍ إلى حال هزلٍ، ومن ضحك إلى تذكير، ومن لهوٍ إلى عظةٍ. فكل طبقةٍ من هذه الطبقات ترفع مرةً وتحط أخرى، وتعطي مرةً وتحرم أخرى، خلا الأشراف والعلماء، فإن الذي يجب لهم رفعة المرتبة، وإعطاء القسط من الميزة، والنصفة من المعاشرة، ما لزموا الطاعة ورعوا حقها.

في حضرة الملك

وليس من حق الملك أن يبرح أحد من مجلسه إلا لقضاء حاجة. فإذا أراد ذلك، فمن الواجب أن لا يلاحظه، فإن سكت الملك قام بين يديه، ثم لاحظه، فإن نظر إليه، مضى لحاجته. فإذا رجع، قام ماثلاً بين يديه أبداً، وإن طال ذلك، حتى يوميء إليه بالقعود، فإذا قعد، فمقعياً أو جاثياً. فإن نظر إليه، بعد قعوده، فهو إذنه له بالتمكن في قعوده.

وليس له أن يختار كمية ما يشرب ولا كيفيتها، إنما هذا إلى الملك، إلا أن من حقه على الملك أن يأمر بالعدل عليه، والنصفة له، ولا يجاوز به حد طاقته، ولا وسع استطاعته، فيخرج به من ميزان القسط، وحد القصد: لأنه لا يأمن أن يتلف نفساً، وهو يجد إلى إحيائها سبيلاً. ومن أخلاق الملك السعيد أن يحرص على إحياء بطانته، حرصه على إحياء نفسه، إذ كان م نظامه.

مراتب الندماء والمغنين لدى الفرس وفي الإسلام

وإذ قد انتهينا إلى هذا القانون من القول، فبنا حاجة إلى الإخبار عن مراتب الطبقات الثلاث من الندماء والمغنين، وإن كانت مراتبهم في كتاب الأغاني محصورة، فقد يجب ذكرها في هذا الموضع أيضاً، لأا داخلة في أخلاق الملوك.

ولنبدأ بملوك العجم، إذ كانوا هم الأول في ذلك، وعنهم أخذنا قوانين الملك والمملكة، وترتيب الخاصة والعامة، وسياسة الرعية، وإلزام كل طبقة حظها، والاقتصار على جديلتها: كان أردشير بن بابك أول من رتب الندماء، وأخذ بزمام سياستهم، فجعلهم ثلاث طبقات: فكانت الأساورة وأبناء الملوك في الطبقة الأولى، وكان مجلس هذه الطبقة من الملك على عشرة أذرع من الستارة؛ ثم الطبقة الثانية، كان مجلسها من هذه الطبقة على عشرة أذرع وهم بطانة الملك وندماؤه ومحدثوه من أهل الشرف والعلم؛ ثم الطبقة الثالثة، كان مجلسهم على عشرة أذرع من الثانية، وهم المضحكون وأهل الهزل والبطالة.

غير أنه لم يكن، في هذه الطبقة الثالثة، خسيس الأصل ولا وضيعه ولا ناقص الجوارح، ولا فاحش الطول والقصر، ولا مؤوف، ولا مرسي بأبنةٍ، ولا مجهول الأبوين، ولا ابن صناعة دنيئة، كابن حائك أو حجام، ولو كان يعلم الغيب مثلاً.

وكان أردشير يقول: ما شيء أضر على نفس ملكٍ من معاشرة سخيفٍ، أو مخاطبة وضيعٍ؛ لأنه كما أن النفس تصلح على مخاطبة الشريف الأديب الحسيب، كذلك تفسد بمعاشرة الدنيء الخسيس حتى يقدح ذلك فيها، ويزيلها عن فضيلتها؛ وكما أن الربح إذا مرت بطيبٍ، حملت طيباً تحيا به النفس، وتقوى به جوارحها، كذلك إذا مرت بالنتن، فحملته، ألمت له النفس، وأضر بأعلاقها أضراراً تاماً.

أقسام الناس

وكذلك جعل الناس على أقسام أربعة، وحصر كل طبقة على قسمتها: فالأول، الأساورة من أبناء الملوك؛ والقسم الثاني، النساك وسدنة بيوت النيران، والقسم الثالث، الأطباء والكتاب والمنجمون، والقسم الرابع، الزراع والمهان وأضرام.

وكان أردشير يقول: ما شيء أسرع في انتقال الدول، وخراب المملكة من انتقال هذه الطبقات عن مراتبها، حتى يرفع الوضيع إلى مرتبة الشريف، ويحط الشريف إلى مرتبة الوضيع. وكان الذي يقابل الطبقة الأولى من الأساورة وأبناء الملوك، أهل الحذاقة بالموسيقيات والأغاني، فكانوا بإزاء هؤلاء نصب خط الاستواء.

وكان الذي يقابل الطبقة الثانية من ندماء االملك وبطانته، الطبقة الثانية من أصحاب الوسيقيات. وكان الذي يقابل الطبقة الثالثة، من أصحاب الفكاهات والمضحكين أصحاب الونج والمعارف والطنابير، وكان لا يزمر الحاذق من الزامرين إلا على الحاذق من المغنين. وإن أمره الملك بذلك، راجعه واحتج عليه.

وقلما كانت ملوك الأعاجم خاصة تأمر أن يزمر على المغني إلا من كان معه في أسلوب واحد، إذ لم يكن من شأم أن ينقلوا أحداً من طبقة وضيعة إلى طبقة رفيعة. إلا أن الملك كان ربما غلب عليه السكر حتى يؤثر فيه، فيأمر الزامر الطبقة الثانية أو الثالثة أن يزمر على المغني من الطبقة الأولى، فيأبى ذلك، حتى إنه ربما ضربه الخدم بالمراوح والمذاب فيكون من اعتذاره أن يقول: إن كان ضربي بأمر الملك وعن رأيه، فإنه سيرضى عني إذا صحا، بلزومي مرتبتي.

وكان أردشير قد وكل غلامين ذكيين، لا يفارقان مجلسه، بحفظ ألفاظه عند الشرب والمنادمة. فأخذهما يمل والآخر يكتب حرفاً حرفاً، وهذا إنما يفعلانه، إذا غلب عليه السكر، فإذا أصبح، ورفع عن وجهه الحجاب، قرأ عليه الكاتب كل ما لفظ به في مجلسه إلى أن نام. فإذا قرأ به الزامر، ومخالفة الزامر أمره، دعا بالزامر، فخلع عليه وجزاه الخير، وقال: أصبت فيما فعلت، وأخطأ الملك فيما أمرك به. فهذا ثواب صوابك، وكذلك العقوبة لمن أخطأ، وعقوبتي أن لا نزمزم اليوم غلا على خبز الشعير والجبن. فلم يطعم في يومه ذلك غيرهما.

وما ذاك إلا حثاً على لزوم سنتهم، وحفظ نواميسهم، وأخذ العامة بالسياسة التامة، والأمر اللازم.

انقلاب الحال في عهد رام جور

فلم يزل على ذلك ملوك الأعاجم، حتى ملك رام جور بن يزدجرد، فأقر مرتبة الأشراف وأبناء الملوك، وسدنة بيوت النيران على ما كانت، وسوى بين الطبقتين من الندماء والمغنين، ورفع من أطربه، وإن كان في أوضع الدرجات، إلى الدرجة الأولى، وحط من قصر عن إرادته إلى الطبقة الثانية، فأفسد سيرة أردشير في المغنين وأصحاب الملاهي خاصةً، فلم يزل الأمر على ذلك، حتى ملك كسرى أنوشروان، فرد الطبقات إلى مراتبها الأولى.

الستار بين ملوك الأعاجم كلها من لدن أردشير بن بابك إلى يزدجرد تحتجب عن الندماء بستارة، فكان يكون بينه وبين أول الطبقات عشرون ذراعاً لأن الستارة من الملك على عشرة أذرع، والستارة من الطبقة الأولى على عشرة أذرع.

وكان الموكل بحفظ الستارة رجلاً من أبناء الأساورة، يقال له خرم باش، فإذا مات هذا الرجل، وكل ا آخر من أبناء الأساورة، وسمي ذا فكان خرم باش، إذا جلس الملك لندمائه وشغله، أمر رجلاً أن يرتفع على أعلى مكان في قرار دار الملك، ويغرد بصوت رفيع يسمعه كل من حضر، فيقول: يا لسان، احفظ رأسك فإنك تجالس في هذا اليوم ملك الملوك! ثم يترل.

فكان هذا فعلهم في كل يوم يجلس فيه الملك للهوه، ولا يجتريء أحد من خلق االله أن يدير لسانه في فيه بخير ولا غيره، حتى تحرك الستارة، فيطلع القائم عليها، فيؤمر بأمرٍ فينفذه، ويقول: افعل يا فلان كذا، وتغني، يا فلان، كذا وكذا.

وكان الندماء من العظماء والأشراف وأبناء الملوك وإخوة الملك وعمومته وبني عمه، وأوضع الطبقات في مجلس الملك في نقابٍ واحدٍ إطراقاً وإخباتاً وسكون طائر، وقلة حركة.

فلم يزل أمر الملوك من الأعاجم كذلك، حتى ملك الأردوان الأحمر، فكان يقول: من كانت له منكم حاجة، فليكتبها في رقعة، وليرفعها قبل شغلي، فأفهم ما فيها، ويخرج إليه أمري، وعقلي صحيح، وفكري جامع. فمن سأل، في غير هذا الوقت، حاجةً، ضربت عنقه، وهو أول من فتح هذا. وكان لا يرد سائلاً، ولا يعطي مبتدئاً.

فلم يزل الأمر على ذلك، حتى ملك رام جور، فكان يقول للندماء: إذا رأيتموني قد طربت، وخرجت من باب الجد إلى باب الهزل، فسلوا حوائجكم.

وكان يوكل بحوائجهم صاحب الستارة. فكان إذا سكر، مد الناس أيديهم برقاعهم، فأخذها صاحب الستارة، فأنفذها إليه، فأخذها بيده، وضمها عليها، ثم رمى ا من غير أن ينظر في شيء منها، ويقول: أنفذوا كل ما فيها. فكان ذلك ربما بلغ في ليلة واحدة من سؤالٍ في إقطاع أو قضاء دينٍ أو طلب منحة ألف ألفٍ أو أكثر، إلا أن ذلك لم يكن تباعاً.

وكان إذا رفع أحدهم في رقعته ما ليس يجوز لمثله، وهو خارج من حد القصد وادخل في باب الإفراط، لم تقض له حاجة، وسمي جاهلاً، ولم تؤخذ له رقعة بعدها أبداً.

في عهد الأمويين

ثم لم يكن ذلك، بعد، في أخلاق الملوك من الأعاجم والعرب حتى ملك يزيد بن عبد الملك، فسوى بين الطبقة العليا والسفلى، وأفسد أقسام المراتب، وغلب عليه اللهو، واستخف بآيين المملكة، وأذن للندماء في الكلام والضحك والهزل في مجلسه والرد عليه. وهو أول من شتم في وجهه من الخلفاء، على جهة الهزل والسخف.

قلت لإسحق بن إبراهيم: هل كانت الخلفاء من بني أمية تظهر للندماء والمغنين؟.

قال: أما معاوية ومروان وعبد الملك والوليد وسليمان وهشام ومروان بن محمد، فكان بينهم وبين الندماء ستارة. وكان لا يظهر أحد من الندماء على ما يفعله الخليفة، إذا طرب للمغنى والتذه، حتى ينقلب ويمشي ويحرك كتفيه، ويرقص، ويتجرد حيث لا يراه إلا خواص جواريه. إلا أنه كان، إذا ارتفع من خلف الستارة، صوت أو نعير طرب أو رقص أو حركة بزفيرٍ تجاوز المقدار، قال صاحب الستارة: حسبك يا جارية! كفي! انتهى! أقصري! يوهم الندماء أن الفاعل لذلك بعض الجواري. فأما الباقون من خلفاء بني أمية، فلم يكونوا يتحاشون أن يرقصوا أو يتجردوا، ويحضروا عراةً بحضرة الندماء والمغنين. وعلى ذلك، لم يكن أحد منهم في مثل حال يزيد بن عبد الملك، والوليد بن يزيد في اون والرفث بحضرة الندماء، والتجرد، ما يباليان ما صنعا.

قلت: فعمر بن عبد العزيز؟

قال: ما طن في سمعه حرف غناء، منذ أفضت الخلافة إليه إلى أن فارق الدنيا. فأما قبلها، وهو أمير المدينة، فكان يسمع الغناء، ولا يظهر منه إلا الأمر الجميل. وكان ربما صفق بيديه، وربما تمرغ على فراشه، وضرب برجليه وطرب. فأما أن يخرج عن مقدار السرور إلى السخف، فلا.

في عهد العباسيين: قلت: فخلفاؤنا؟ قال: كان أبو العباس في أول أيامه يظهر للندماء، ثم احتجب عنهم بعد سنة. أشار بذلك عليه أسيد بن عبد االله الخزاعي؛ وكان يطرب ويبتهج ويصيح من وراء الستارة: أحسنت واالله! أعد هذا الصوت! فيعاد له مراراً. فيقول في كلها: أحسنت. وكانت فيه فضيلة لا تجدها في أحد؛ كان لا يحضره نديم ولا مغنٍ ولا ملهٍ، فينصرف، إلا بصلةٍ أو كسوةٍ، قلت أم كثرت.

وكان لا يؤخر إحسان محسنٍ لغدٍ، ويقول: العجب ممن يفرح أنساناً، فيتعجل السرور، ويجعل ثواب من سره تسويفاً وعدةً؛ فكان في كل يومٍ وليلة يقعد فيه لشغله، لا ينصرف أحد ممن حضره إلا مسروراً. ولم يكن هذا لعربي ولا عجمي قبله؛ غير أنه يحكى عن رام جورٍ ما يقارب هذا.

فأما أبو جعفر المنصور، فلم يكن يظهر لنديم قط، ولا رآه أحد يشرب غير الماء. وكان بينه وبين الستارة عشرون ذراعاً، وبين الستارة والندماء مثلها؛ فإذا غناه المغني فأطربه، حركت الستارة بعض الجواري، فاطلع إليه الخادم صاحب الستارة فيقول: قل له: أحسنت، بارك االله فيك!؛ وربما أراد أن يصفق بيديه، فيقوم عن مجلسه، ويدخل بعض حجر نسائه، فيكون ذاك هناك، وكان لا يثيب أحداً من ندمائه وغيرهم درهماً، فيكون له رسماً في ديوان. ولم يقطع أحداً ممن كان يضاف إلى ملهيةٍ أو ضحك أو هزلٍ، موضع قدم من الأرض. وكان يحفظ كل ما أعطى واحداً منهم عشر سنين، ويحسبه، ويذكره له.

وكان أبو جعفر المنصور يقول: من صنع مثل ما صنع إليه، فقد كافأ، ومن أضعف، كان مشكوراً، ومن شكر، كان كريماً، ومن علم أن ما صنع، فإلى نفسه صنع، لم يستبطيء الناس في شكرهم، ولم يستزدهم في مودم. ولا تلتمس في غيرك شكر ما أتيته إلى نفسك ووقيت به عرضك. وأعلم أن الطالب إليك الحاجة، لم يكرم وجهه عن مسألتك، فأكرم وجهك عن رده.

وكان المهدي في أول أمره يحتجب عن الندماء، متشبهاً بالمنصور نحواً من سنة، ثم ظهر لهم. فأشار عليه أبو عونٍ بأن يحتجب عنهم، فقال: إليك عني، يا جاهل! إنما اللذة في مشاهدة السرور وفي لدنو من سرني. فأما من وراء وراء، فما خيرها ولذا؟ ولو لم يكن في الظهور للندماء والإخوان إلا أني أعطيهم من السرور بمشاهدتي مثل الذي يعطونني من فوائدهم، لجعلت لهم في ذلك حظاً موفراً.

وكان كثير العطايا، وافرها، قل من حضره إلا أغناه. وكان لين العريكة، سهل الشريعة، لذيذ المنادمة، قصير المناومة، ما يمل نديماً ولا يتركه إلا عن ضرورة، قطيع الخنا، صبوراً على الجلوس، ضاحك السن، قليل الأذى والبذاء.

وكان الهادي شكس الأخلاق، صعب المرام، قليل الإغضاء، سيء الظن. قل من توقاه وعرف أخلاقه، إلا أغناه. وما كان شيء أبغض إليه من ابتدائه بسؤال. وكان يأمر للمغني بالمال الخطير الجزيل، فيقول: لا يعطيني بعدها شيئاً، فيعطيه، بعد أيام، مثل تلك العطية.

ويقال: إنه قال يوماً، وعنده ابن جامع وإبراهيم الموصلي ومعاذ ابن الطبيب، وكان أول من دخل عليه معاذ، وكان حاذقاً بالأغاني، عارفاً ا: من أطربني اليوم منكم، فله حكمه. فغناه ابن جامع غناءً لم يحركه، وكان إبراهيم قد فهم غرضه، فغناه:

سليمى أجمعت بينا فأين تظنها أينـا

فطرب، حتى قام عن مجلسه، ورفع صوته، وقال: أعد باالله، وبحياتي!.

فأعاد، فقال: أنت صاحبي، فاحتكم.

فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، حائط عبد الملك بن مروان وعينه الخرارة بالمدينة قال: فدارت عيناه في رأسه، حتى صارتا كأما جمرتان، ثم قال: يا ابن اللخناء! أردت أن تسمع العامة أنك أطربتني، وأني حكمتك فأقطعتك! أما واالله، لولا بادرة جهلك التي غلبت على صحيح عقلك وفكرك، لضربت الذي فيه عيناك! ثم سكت هنيهةً.

قال إبراهيم: فرأيت ملك الموت قائماً بيني وبينه ينتظر أمره. ثم دعا إبراهيم الحراني، فقال: خذ بيد هذا الجاهل، فأدخله بيت المال، فليأخذ منه ما شاء!.

فأخذ الحراني بيدي، حتى دخل بي بيت المال. فقال: كم تأخذ؟ فقلت: مائة بدرة. فقال: دعني أؤامره.

قلت: فآخذ تسعين. قال: حتى أؤامره.

قلت: فثمانين. قال: لا.

فأبى إلا أن يؤامره، فعرفت غرضه، فقلت له: آخذ سبعين لي، ولك ثلاثون. قال: شأنك.

قال: فانصرف بسبعمائة ألف، وانصرف ملك الموت عن الدار. قال: وكان الرشيد في أخلاق أبي جعفر المنصور، يمتثلها كلها إلا في العطايا والصلات والخلع. فإنه كان يقفو فعل أبي العباس والمهدي. ومن خبرك أنه رآه قط وهو يشرب إلا الماء، فكذبه. وكان لا يحضر شربه إلا خاص جواريه، وربما طرب للغناء، فتحرك حركةً بين الحركتين في القلة والكثرة. وهو، من بين خلفاء بني العباس، من جعل للمغنين مراتب وطبقات، على نحو ما وضعهم أردشير بن بابك وأنوشروان. فكان إبراهيم الموصلي، واسماعيل أبو القاسم بن جامع، وزلزل منصور الضارب في الطبقة الأولى وكان زلزل يضرب، ويغني هذان عليه.

والطبقة الثانية: سليم بن سلام أبو عبيد االله الكوفي، وعمرو الغزال ومن أشبههما. والطبقة الثالثة: أصحاب المعازف والونج والطنابير. وعلى قدر ذلك كانت تخرج جوائزهم وصلام. وكان إذا وصل واحداً من الطبقة الأولى بالمال الكثير الخطير، جعل لصاحبه اللذين معه في الطبقة، نصيباً منه، وجعل للطبقتين اللتين تليانه منه أيضاً نصيباً. وإذا وصل أحداً من الطبقتين الأخريين بصلة، لم يقبل واحد من الطبقة العالية منه درهماً، ولا يجتريء أن يعرض ذلك عليه. قال: فسأل الرشيد يوماً برصوما الزامر، فقال له: يا إسحق! ما تقول في ابن جامع؟ فحرك رأسه، وقال: خمر قطربل، يعقل الرجل، ويذهب العقل.

قال: فما تقول في إبراهيم الموصلي؟ قال: بستان فيه خوخ وكمثرى وتفاح وشوك وخرنوب.

قال: فما تقول في سليم بن سلام؟ فقال: ما أحسن خضابه! قال: فما تقول في عمرو الغزال؟ قال: ما أحسن بنانه! قال: وكان منصور زلزل من أحسن وأحذق من برأ االله بالجس؛ فكان إذا جس العود، فلو سمعه الأحنف ومن تحالم في دهره كله، لم يملك نفسه حتى يطرب.

قال إبراهيم: فغنيت، يوماً، على ضربه، فخطأني. فقلت لصاحب الستارة: هو، واالله، اخطأ!.

قال: فرفع الستارة، ثم قال: يقول لك أمير المؤمنين: أنت، واالله، أخطأت!.

فحمي زلزل، وقال: يا إبراهيم، تخطئني؟ فواالله ما فتح أحد من المغنين فاه بغير لفظٍ إلا عرفت غرضه! فكيف أخطيء، وهذه حالي؟.

فأداها صاحب الستارة، فقال الرشيد: قل له: صدقت! أنت كما وصفت نفسك، وكذب إبراهيم وأخطأ.

قال إبراهيم: فغمني ذلك، فقلت لصاحب الستارة: أبلغ أمير المؤمنين، سيدي ومولاي، أن بفارس رجلاً يقال له سنيد، لم يخلق الله أضرب منه بعود، ولا أحسن مجساً، وغن بعث إليه أمير المؤمنين فحمله، عرف فضله، وتغنيت على ضربه. فغن زلزلاً يكايدني مكايدة القصاص والقرادين.

قال: فوجه الرشيد إلى الفارسي، فحمل على البريد، فأقلق ذلك زلزلاً وغمه. فلما قدم بالفارسي، أحضرنا، وأخذنا مجالسنا، وجاؤوا بالعيدان قد سويت. وكذلك كان يفعل في مجلس الخلافة، ليس يدفع إلى أحدٍ عوده، فيحتاج إلى أن يحركه، لأا قد سويت وعلقت مثالثها مشاكلةً للزيرة على الدقة والغلظ.

قال: فلما وضع عود الفارسي في يديه، نظر إليه منصور زلزل فأسفر وجهه، وأشرق لونه، فضرب وتغنى عليه إبراهيم. ثم قال صاحب الستارة لزلزل: يا منصور، إضرب.

قال: فلما جس العود، ما تمالك الفارسي أن وثب من مجلسه بغير إذن، حتى قبل رأس زلزلٍ وأطرافه، وقال: مثلك، جعلت فداك لايمتهن ويستعمل. مثلك يعبد.

فعجب الرشيد من قوله، وعرف فضيلة زلزل على الفارسي، فأمر له بصلةٍ، ورده إلى بلده. وكان منصور زلزل من أسخى الناس وأكرمهم؛ نزل بين ظهراني قومٍ، وقد كان يحل لهم اخذ الزكاة. فما مات حتى وجبت عليهم الزكاة.

وكان إسحق برصوما في الطبقة الثانية. قال: فطرب الرشيد يوماً لزمره، فقال له صاحب الستارة: يا إسحق! أزمر على غناء ابن جامع. قال: لا أفعل.

قال: يقول لك أمير المؤمنين، ولا تفعل؟ قال: إن كنت أزمر على الطبقة العالية، رفعت إليها. فأما أن أكون في الطبقة الثانية، وأزمر على الأولى، فلا أفعل.

فقال الرشيد لصاحب الستارة: ارفعه إلى الطبقة الأولى؛ فإذا قمت، فادفع البساط الذي في مجلسهم إليه. فرفع إسحق إلى الطبقة العالية، وأخذ البساط، وكان يساوي ألفي دينار. فلما حمله إلى مترله، استبشرت به أمه وأخواته، وكانت أمه نبطية لكناء.

فخرج برصوما عن مترله لبعض حوائجه، وجاء نساء جيرانه يهنئن أمه بما خص به، دون أصحابه، ويدعون لها. فأخذت سكيناً، وجعلت تقطع لكل من دخل عليها قطعة من البساط، حتى أتت على أكثره.

فجاء برصوما، فإذا البساط قد تقسم بالسكاكين. فقال: ويلك ما صنعت؟ قالت: لم أدر، ظننت أنه كذا يقسم فحدث الرشيد بذلك، فضحك، ووهب له آخر.

وزعم سعيد بن وهب أن إبراهيم الموصلي غنى أمير المؤمنين هارون صوتاً، فكاد يطير طرباً، فاستعاده عامة ليله، وقال: ما رأيت صوتاً يجمع السخاء والطرب وجودة الصنعة والسخف غير هذا الصوت! فأقبل إبراهيم، فقال:

يا أمير المؤمنين! لو وهب لك إنسان مائة ألف درهم، أو لو وجدت مائة ألف درهم مطروحةً، كنت أسر ا أو ذا الصوت؟ قال: واالله، لأنا أسر ذا الصوت مني بألف ألف، ألف ألف. قال: فلو فقدت من بيت مالك مائة ألف كان أشد عليك، أو لو فقدت هذا الصوت وفاتك هذا السرور؟ قال: بل ألف ألف، وألف ألف أهون علي.

قال: فلم لا ب مائة ألف أو مائتي ألف لمن أتاك بشيءٍ فقد ألفي ألفٍ أهون عليك منه؟ فأمر له بمائتي ألف درهم.

الخليفة الأمين

قلت لإسحق: فالمخلوع، أين كان ممن ذكرت؟ قال: ما كان أعجب أمره كله! فأما تبذله، فما كان يبالي أين قعد، ومع من قعد. وكان، لو كان بينه وبين ندمائه مائة حجاب، خرقها كلها، وألقاها عن وجهه، حتى يقعد حيث قعدوا. وكان من أعطى الخلق لذهبٍ وفضة، وأبهم للأموال إذا طرب أو لها.

وقد رأيته، وقد أمر لبعض أهل بيته في ليلةٍ بوقر زورق ذهباً، فانصرف به.

وأمر لي، ذات ليلة، بأربعين ألف دينار، فحملت أمامي. ولقد غناه إبراهيم بن المهدي غناءً لم أرتضه. فقام عن مجلسه، فأكب عليه، فقبل رأسه. فقام إبراهيم، فقبل ما وطئت رجلاه من بساطه. فأمر له بمائتي ألف درهم. ولقد رأيته يوماً، وعلى رأسه بعض غلمانه، فنظر إليه، فقال: ويلك! ثيابك هذه تحتاج إلى أن تغسل. انطلق، فخذ ثلاثين بدرة، فاغسل ا ثيابك.

ولقد حدثني علويه عنه، قال: لما أحيط به، وبلغت حجارة المنجنيق بساطه، كنا عنده، فغنته جارية له بغناءٍ تركت فيه شيئاً لم تجد حكايته. فصاح: يا زانية! تغنينني الخطأ! خذوها!.

فحملت، وكان آخر العهد ا.

الخليفة المأمون

قلت: فالمأمون؟.

قال: أقام بعد قدومه عشرين شهراً لم يسمع حرفاً من الغناء. ثم سمعه من وراء حجابٍ، متشبهاً بالرشيد. فكان كذلك سبع حججٍ ثم ظهر للندماء والمغنين.

قال: وكان حين أحب السماع ظاهراً بعينه، أكبر ذاك أهل بيته وبنو أبيه.

ويقال أنه سأل عن إسحق بن إبراهيم الموصلي، فغمزه بعض من حضر، وقالوا: يغادر تيهاً وبأواً. فأمسك عن ذكره. قال: فجاءه زرزر يوماً، فقال له: يا اسحق! نحن اليوم عند أمير المؤمنين! فقال إسحق: فغنه ذا الشعر:

يا سرحة الماء قد سدت موارده أما إليك طريق غير مسـدود

لحائمٍ حام حتى لا حـراك بـه محلأٍ عن سبيل الماء مطرود

فلما غناه به زرزر أطربه وأجه وحرك له جوارحه، وقال: ويلك! من هذا؟! قال: عبدك افو المطرح، ياسيدي إسحاق قال: يحضر الساعة.

فجاءه رسوله، وإسحق مستعد، قد علم انه إن سمع الغناء من مجيدٍ مودٍ أنه سيبعث إليه فجاءه الرسول؛ فحدثت انه لما دخل عليه، ودنا منه، مد يده غليه، ثم قال: ادن مني. فأكب عليه واحتضنه المأمون، وأدنا، واقبل عليه بوجهه مصغياً إليه، ومسروراً به.

الفهارس

فهرست شلواح 1979: [47]