هذا هو الشّرح الثّاني باللّغة العربيّة لكتاب الأدوار.
تعتمد ترجمة البارون الدّيرلانجي على هذه النّسخة.
الحَمْدُ لِلَه الَّذِي اخْتَارَ نَوْعَ الإِنْسَانِ بِمَزِيدِ اللُّطْفِ وَالإِحْسَانِ وَمَيَّزَهُمْ عَنْ سَائِرِ الأَكْوَانِ بِدَقِيقِ الفَهْمِ وَالبَيَانِ وَرَسَمَ أَنْفَاسَهُمْ بِكَيْفِيَّاتِ الحُرُوفِ وَالأَلْحَانِ وَزَيَّنَ أَلْفَاظَهُمْ بِمَحَاسِنِ الأَصْوَاتِ وَالأَوْزَانِ حَمْدًا تَضوع شذاها مدى الأَدْوَارِ وَالأَزْمَانِ وَتَفُوحُ رَيَّاهَا نَسِيمَ الرُّوحِ وَالرَّيْحَانِ وَالصَّلَوةُ وَالسَّلَامُ عَلَى حَبِيبِ الرَّحْمَانِ مُحَمَّد المَبْعُوثِ إِلَى كَافَّةِ الإِنْسِ وَالجَانِ وَعَلَى آلِهِ أَعْيَانِ الأَعْيَانِ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْبَابِهِ خَيْرَ أَصْحَابٍ وَإِخدان.
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الهِمَمَ فِي زَمَانِنَا هَذَا تَقَاصَرَتْ عَنْ تَحْقِيقِ العُلُومِ العَقْلِيَّةِ وَتَحْصِيلِهَا وَالرَّغَبَاتُ فَتَرَتْ عَنْ دَرْكِهَا وَضَبْطِ جُمَلِهَا وَتَفَاصِيلِهَا حَتَّى تَدَاعَتْ مَبَايِنُهَا بِالانْهِدَامِ وَتَجَاوَبَتْ قَوَاعِدُهَا بِالانْخِرَامِ لَا سِيَمَا الرِّيَاضِيَاتُ فَإِنَّهَا صَارَتْ كَالعَنْقَاءِ يُسْمَعُ مِنْهَا اسْمٌ بِلَا مُسَمَّى تَنْفَرٌّ عَنْ تَصَدِّيهِ الطِّبَاعُ لاكتنفّر الشّاء من صيد السّباع ومن أصولها المتوقّى الذي تميل إليه الأذهان السّليمة وقد تشبّث بأهداب الجزء العملي منه أحادّ من العوامّ قنعوا باليسير منه لا بالتّمام يضربون على سنته الأوتار ويتغنّون على شعبه لتناول الأوطار مع الغفلة على الفنّ العلمي منه كلّيّا وكونه عندهم نسيا منسيّا وإنّي عند شروعي في كلّيّات الطّبّ افتقرت إلى قواعد من هذا الفنّ محتاجة إليها فيه فحرصت على الوقوف على كنه هذا العلم المهجور فلم أجد أحدا عنده منه ما يشفي [الصّدرور] فصرفت شطرا صالحا من عمري في تحقيقه وظبطه وترتيبه وباحثت كلّ من جلّ وقلّ واستسقيت الوبل والطلّ وراجعت جلّ الكتب المصنّفة فيه فوجدت رسالة الأدوار التي لم يسمح بمثله الأدوار ما دار الفلك الدّوّار كتابا جامعا لأصوله وفروعه مشتملا على مباحث جليلة في ألفاظ قليلة ولطائف كثيرة في عبارات يسيرة، لا يطّلع على شعبه إلّا الأوحدي من الأذكياء ولا يهتدي إلى طرقه إلّا الألمعي من الفضلاء باجتهدت في حلّ عقده ورفع شبهه برهة من الزّمان وتداولته مرّة بعد أخرى في كلّ حين وأوان، فلمّا صادفت منه المبتغى وارتقيت منه المرتقى وتصفّحت سينه وشينه وتعرّفت عنه وسمينه أحببت أن أشرحه شرحا يذلّل صعابه ويميّز عن القشر لبابة ويكشف عن وجوه المشكلات غطائه ويميط عن عيون المعظلات غشاؤه فوافق القدر مرادي والحجّ ما سنح لفؤادي ولمّا فرغت من إتمامه وإبراز مكنونه من الحمامة جعلته وسيله إلى حضرة من [حصّة] اللّه بتأيّده وجعله مظهر المرحمة على عبيده جمع أقطار الأرض في صفقة ملكه وضمّ الخلائق بأجمعها في حوزة ملكه خضعت عند سرير سلطنته رقاب السّلاطين وارتعدت بسياسته فرائص المتمرّدين تطأطأت لوطأته أعناق الصّيد ولانت بصولته صعاب أصلاب الّناديد انخرط في سلك سامي رأيه مصالح الدّين والدّنيا ولاذ بلبابه المنيف وجنابه الشّريف كافّة الورى يساق إلى جنابه ركائب الآمان ويضرب في طلب أفضاله البار الآبان شحنت بثنائه أصول المحاضر وشرفت بألقابه فروع المنابر ينتظم بذهنه النّقّاد في سلك البيان فرائد حقائق المعضلات وتنحلّ بطبعه الوقّاد عقائد دقائق المشكلات لا يخطر بالبال نكتة خفيّة إلّا وعنده بيثه جليّة ولا يشار بحضرته إلى سرّ مستور إلّا وألبسه لباس الظّهور وفلت لمّة القّ لميا من دولته من جلابيب الجلال في سبغها وإسناها ورقّت من بقاع الغزّ والكمال إلى أعلى ذراها. تلك رقاب الجبابرة بما حازها من ملكتي السّماحة والحماسة وذلل صعاب قروم الأكاسرة بما فاز بها من فضلتي العدالة والسّياسة ظلّ اللّه الممدود في أقطار الأرضين صورة رحمة الخالق على الخلائق أجمعين أفضل الملوك وأكمل الولّاة وأعدل السّلاطين جلال الحقّ والدّين والدّنيا مبارز الإسلام وغيّاث المسلمين السّلطان المطيع المطاع جلال الدّنيا والدّين أبى الفوارس شاه شجاع خلّد اللّه ملكه وسلطنته في دولة ظاهرة الرّايات إلى يوم الموعود وأيّد رأفته ورحمته في أبّهة باصرة الآيات مقترنة بالخلود فإن نظر إلى ما قاسيت فيه بعين الرّضى فهو نهاية المرجى وغاية المنى واللّه يؤيّده بنصره في الدّين والدّنيا ويؤتيه من لدنه ما هو المبتغي إنّه لطيف لما يشاء.
قَالَ : « الحَمْدُ لِلَّه رَبِّ العَالَمِينَ وَالصَّلَوةُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدَ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ. أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ أَمَرَنِي مَنْ يَجِبُ عَلَيَّ امْتِثَالُ أَوَامِرِهِ وَالتَّيَمُّنِ بِالسَّعْيِ فِي مَسَالِكِ مَرَامِي خَوَاطِرِهِ أَنْ أَضَعَ لَهُ مُخْتَصَرًا فِي مَعْرِفَةِ النَّغَمِ وَنِسَبِ أَبْعَادِهَا وَأَدْوَارِهَا وَأَدْوَارِ الِإيقَاعِ وَأَنْوَاعِهِ عَلَى نَهْجٍ يُفِيدُ العِلْمَ وَالعَمَلَ فَبَادَرْتُهُ إِلَى مَا أَمَرَ بِهِ مُمْتَثِلًا وَبَيَّنْتُ مَا سُنَحَ لِلخَاطِرِ فِيهِ مَا إِذَا أَمْعَنَ النَّظَرُ فِيهِ انْكَشَفَ لَهُ مَا لَمْ يَتَفَطَّنْ إِلَيْهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ أَفْنَى جُلَّ زَمَانِهِ فِي هَذِهِ الصِّنَاعَةِ. »
أَقُولُ : مَا مَعْنَى الدِّيبَاجَةِ فَوَاضِحَةٌ لَكِنَّا نُقَدِّمُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي مَعَانِي كَلَامِهِ مَبَاحِثَ يُحْتَاجُ فِي كُلِّ عِلْمٍ إِلَى تَقْدِيمِهَا لِيَكُونَ الكِتَابُ مَسْلُوكًا عَلَى النَّهْجِ المُتَعَارَفِ فِي سَائِرِ العُلُومِ فَنَقُولُ : مِنْ دَأْبِ العُلَمَاءِ فِي تَصَانِيفِهِمْ أَنْ يَبْدَؤُوا بِتَعْرِيفِ العِلْمِ وَذِكْرِ مَوْضُوعِهِ وَمَبَادِئِهِ وَبَيَانِ وَجْهِ الحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَالمُصَنِّفُ أَهْمَلَ أَكْثَرَهَا لِأَنَّ عِنَايَتَهُ مَصْرُوفَةٌ إِلَى بَيَانِ المَبَاحِثِ الضَّرُورِيَّةِ لِأَهْلِ العَمَلِ. فَأَمَّا تَعْرِيفُ أَهْلِ العِلْمِ فَالمُوسِيقَى لَفْظٌ يُونَانِيٌّ مَعْنَاهُ « الأَلْحَانُ »، وَاللَّحْنُ فِي اللُّغَةِ القِرَاءَةُ المُطْرِبَةُ. يُقَالُ لَحِنَ فُلَانٌ فِي قِرَائَتِهِ إِذَا أَطْرَبَ بِهَا وَغَرَّدَ. وَالتَّغْرِيدُ التَّطْرِيبُ فِي الصَّوْتِ وَهْوَ لَحْنُ النَّاسِ إِذَا كَانَتْ أَجْنِسُهُمْ قِرَاءَةً. وَفِي الاصْطِلَاحِ يُفَسَّرُ بِمَعْنَيَيْنِ، لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُمَا بِتَعْرِيفِ العِلْمِ. الأَوَّلُ أَنَّهُ جَمَاعَةُ نَغَمٍ مُخْتَلِفَةٍ رُتِّبَتْ تَرْتِيبًا مَحْدُودًا مُلَائِمًا وَالثَّانِي أَنَّهُ جَمَاعَةُ نَغَمٍ مُخْتَلِفَةٍ رُتِّبَتْ تَرْتِيبًا مَحْدُودًا مُلَائِمًا قُرِنَتْ بِأَلْفَاظٍ مَنْظُومَةٍ دَالَّةٍ عَلَى مَعَانٍ. وَالمَعْنَى الأَوَّلُ أَعَمُّ، بَلْ هُوَ شِبْهُ مَادَّةٍ لِلثَّانِي، وَسَيَجِيءُ البَحْثُ عَنْ ذَلِكَ مُسْتَوْفَى فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ الَلّهُ.
وَالشَّيْخُ الفَاضِلُ المُقَدِّمُ أَبُو النَّاصِرِ مَحَمَّد بن محمّد بن إيرلاغ الطُّرْخَانِي الفَارَابِي رَحِمَهُ الَلّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ إِنَّ المُوسِيقَى صِنَاعَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى الأَلْحَانِ وَمَا بِهَا تَلْتَئِمُ وَمَا بِهَا تَصِيرُ أَكْمَلَ وَأَجْوَدَ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ لِلْمُوسِيقَى ثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ. فَأَمَّا الجُزْءُ الَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَى الأَلْحَانِ أَنْفُسِهَا فَهْوَ العَمَلِيُّ مِنْ هَذَا الْفَنِّ. وَأَمَّا « مَا بِهَا تَلْتَئِمُ » فَإِشَارَةٌ إِلَى الْقِسْمِ الَّذِي تَتَبَيَّنُ فِيهِ الأَجْزَاءُ الضَّرُورِيَّةُ لِلْأَلْحَانِ وَهْيَ النَّغَمَاتُ وَالأَبْعَادُ وَالجُمُوعُ النَّاقِصَةُ وَالكَامِلَةُ وَكَيْفِيَّةُ الانْتِقَالَاتِ فِي العَمَلِ وَضُرُوبُ الِإيقَاعِ. « مَا بِهَا تَصِيرُ أَكْمَلَ وَأَجْوَدَ » فَإِشَارَةٌ إِلَى التَّرْنِينَاتِ الَّتِي تُضَافُ إِلَى الأَجْزَاءِ الأَصْلِيَّةِ لِلْأَلْحَانِ كَمَا سَتَعْرِفُهُ فِي مَوَاضِعِهَا.
وَقَدْ رَسَمَ بَعْضُ الأَفَاضِلِ بِأَنَّهُ « عِلْمٌ يُعْرَفُ مِنْهُ كَيْفِيَّةُ تَأْلِيفِ النَّغَمَاتِ لِتَكُونَ مُلَائِمَةً بِحَسَبِ نِسَبِهَا، مَوْزُونَةٌ بِحَسَبِ أَزْمِنَةِ مَا بَيْنَهَا »، وَذَلِكَ التَّعْرِيفُ أَشْبَهُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى العِلَلِ الأَرْبَعَةِ إِذِ النَّغَمَاتُ كَالمَادَّةِ وَالتَّأْلِيفُ كَالصُّورَةِ وَالمُلَائَمَةُ وَالوَزْنُ كَالغَايَةِ وَالفَاعِلِيُّ يُفْهَمُ الْتِزَامًا إِذْ لَا تَأْلِيفَ إِلّاَ بِمُؤَلِّفٍ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ « عِلْمٌ » كَالجِنْسِ وَبَاقِي القُيُودِ كَالفَصْلِ أَوِ الخَاصَّةِ المُمَيِّزَةِ. وَيَحْتَرِزُ بِقَوْلِهِ « يُعْرَفُ مِنْهُ كَيْفِيَّةُ تَأْلِيفِ النَّغَمَاتِ » عَنْ سَائِرِ العُلُومِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ كَذَا وَكَذَا لِتَدْخُلَ فِيهِ جُمْلَةُ أَقْسَامِ العِلْمِ إِذْ هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَنَّيْنِ : فَنُّ التَّأْلِيفِ وَفَنُّ الِإيقَاعِ. وَمِنْ فَنِّ التَّأْلِيفِ يُعْرَفُ أَنَّهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ يَجِبُ أَنْ تُؤَلَّفَ النَّغَمَاتُ حَتَّى تَكُونَ مُلَائِمَةً وَمِنَ الإِيقَاعِ أَنَّهُ عَلَى أَيِّ نِسَبِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أَزْمِنَةُ مَا بَيْنَهَا حَتَّى يَحْكُمَ الطَّبْعُ السَّلِيمُ بِاسْتِقَامَتِهَا. وَأَمَّا مَوْضُوعُهُ فَالنَّغَمَاتُ مِنْ حَيْثُ نَسْبِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ فِي كَمِّيَّةِ مَقَادِيرِ حِدَّتِهَا وَثِقَلِهَا وَأَزْمِنَةِ مَا بِيْنَهَا. وَالحِدَّةُ وَالثِّقَلُ عَلَى الوَجْهِ المَذْكُورِ مِنَ العَوَارِضِ الذَّاتِيَّةِ لِلنَّغَمَاتِ وَهْيَ كَيْفِيَّتَانِ مَسْمُوعَتَانِ عَارِضَتَانِ [70 أ] لِلْأَصْوَاتِ عِنْدَ قِيَاسِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ. وَالحِدَّةُ [هُوَ] الصِّيَاحُ لَا الجَهَارَةُ، وَالثِّقَلُ ضِدُّهُ لَا الخَفَاتَةُ. وَلِلْأَصْوَاتِ صِفَاتٌ تَلْحَقُهَا مِنْ بَابِ الكَيْفِ كَالصَّفَاءِ وَالكُدُورَةِ وَالخُشُونَةِ وَالنُّعُومَةِ وَالجَهَارَةِ وَالخَفَاتَةِ وَالغُنَّةِ وَالزُّمِّ وَسَتَعْرِفُ فِي آخِرِ الكِتَابِ أَحْوَالَهَا. فَهَذِهِ جُمْلَةُ أَعْرَاضٍ عَامَّةٍ لِلنَّغَمَاتِ وَخَوَاصَّ الصَّوْتِ.
وَأَمَّا مَبَادِؤُهُ فَاعْلَمْ أَنَّ مَبَادِئَ العُلُومِ تَنْضَبِطُ تَحْتَ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَوَّلِيَّاتٌ، وَهْيَ مَا حَصَلَ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ بَدَايَةِ )في الأصل : بدو) الفِطْرَةِ وَلَا يُحْتَاجِ إِلَى بَيَانٍ، وَمُصَادَرَاتٌ، وَهْيَ مَا يُتَسَلَّمُ مِنْ صَاحِبِ عِلْمٍ أَعْلَى وَقَدْ بَرْهَنَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ العِلْمِ، وَوُجْدَانِيَّاتٌ، وَأَعْنِي بِهَا مَا يُحْتَاجُ إِلَى تَجْرِبَةٍ وَاسْتِوَاءٍ كَمَا فِي مَبَادِئِ عِلْمِ الطِّبِّ وَالنُّجُومِ فَإِنَّ الطَّبِيبَ لَا يُبَرْهِنُ فِي عِلْمِهِ عَلَى كَوْنِ تَشْرِيحِ أَعْضَاءِ الِإنْسَانِ عَلَى الوَجْهِ الَّذِي يُقَرِّرُهُ وَلَا عَلَى طَبَائِعِ الأَدْوِيَةِ المُفْرَدَةِ وَقُوَاهَا وَتِلْكَ لَيْسَتِ البَيِّنَةَ فِي أَنْفُسِهَا وَلَا فِي عِلْمٍ آخَرَ، وَكَذَا المُنَجِّمُ لَا يُبَرْهِنُ فِي عِلْمِهِ عَلَى مَقَادِيرِ حَرَكَاتِ الكَوَاكِبِ المَعْلُومَةِ بِالرَّصْدِ وَلَا فِي عِلْمٍ أَعْلَى، بَلِ الطَّبِيبُ وَالمُنَجِّمُ إِنْ كَانَا مِمَّنْ بَاشَرَ التَّشْرِيحَ وَتَجْرِبَةَ الأَدْوِيَةِ وَرَصْدَ الحَرَكَاتِ السَّمَاوِيَّةِ بِنَفْسِهِ كَانَتْ تِلْكَ المَبَادِئُ فِي حَقِّهِمَا تَجْرِيبِيَّةً وَإِنْ كَانَا مِمَّنْ يُسَلِّمُهَا مِنْ مُبَاشِرِيهَا التَحَقَ فِي حَقِّهِمَا بِالقِسْمِ الثَّانِي بِالحَقِيقَةِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَبَيِّنْ فِي عِلْمِ آخَرَ. وَلْنُسَمِّ كِلَا النَّوْعَيْنِ المَبَادِئَ التَّجْرِيبِيَّةَ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَاعْلَمَ أَنَّ تِلْكَ الأَقْسَامِ مَوْجُودَةٌ فِي عِلْمِنَا هَذَا، فَالأَوَّلِيَّاتُ تَجِدُهَا فِي أَثْنَاءِ المَبَاحِثِ وَلَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِهَا هَهُنَا، وَأَمَّا المُتَسَلَّمَةُ مِنْ عُلُومٍ أُخَرَ فَبَعْضُهَا مَأْخُوذٌ مِنْ عِلْمِ النِّسَبِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَقْسَامِ الهَنْدَسَةِ وَبَعْضُهَا مِنَ الطَّبِيعِيَّاتِ. وَلَمَّا كُنَّا بِصَدَدِ شَرْحِ الكِتَابِ لَمْ نُقَدِّمْ ذِكْرَهَا جُمْلَةً وَاحِدَةَ لِئَلَاّ يَلْزَمَ التِّكْرَارُ عِنْدَ ذِكْرِ المُصَنِّفِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا فَنُشِيرُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ فِي مَوْقِعِهِ. وَأَمَّا التَّجّرِيبِيَّاتُ فَيَتَسَلَّمُهَا صَاحِبُ نَظَرِيِّي هَذَا الفَنِّ مِنْ أَرْبَابِ العَمَلَ لِتَقَدُّمِ عَمَلِيِّي هَذَا الفَنِّ عَلَى نَظَرِيِّيهِ بِالزَّمَانِ.
وَهَذَا العِلْمُ يَتَدَرَّجُ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى كَمُلَ عَلَى هَذَا النِّظَامِ وَقَدْ كَانَ القُدَمَاءُ فِي المَاضِيَةِ مِنَ القُرُونِ تَأَمَّلُوا أَوَّلًا فِي أَصْوَاتِ الحَيَوَانَاتِ النَّاطِقَةِ وَغَيْرِهَا فَوَجَدُوهَا فِي كُلٍّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهَا المُلِذَّةِ المُؤْذِيَةٍ مُخَالِفَةً لِمَا فِي الحَالِ الآخَرِ فَسَمِعُوا مِنْهَا فِي حَالِ طَرَبِهَا نَوْعًا مِنَ الصَّوْتِ غَيْرَمَا سَمِعُوا مِنْهَا إِذَا لَحِقَهَا الخَوْفُ. وَكَذَا فِي حَالِ أَسَفِهَا وَغَضَبِهَا وَشَفَقَتِهَا أَنْحَاءٌ مِنَ الأَصْوَاتِ مُخَالِفَةٌ لِمَا فِي أَضْدَادِهَا ولم يكن إدراك ماهيّات فصول كلّ منها و[.] وجدوا الإنسان يباشر بطبعه أنواع التّرنّمات يطلب ببعضها حصول الرّاحة واللّذّة وإن لا يحسّ بالتّعب كما هو دأب المشتغلين بالأعمال الشّاقّة فإنّهم يشتغلون بسبب ترنّماتهم [70 ب] في أثناء العمل عن الإحساس بالتّعب من الحركة وذلك لعدم الإحساس بالزّمان فلا يحسّ بالحركة الواقعيّة فيه ولا بالتّعب التّابع لها، وقد تفعل بعض التّرنّمات مثل ذلك بالحيوانات [الأخرى] كما يعرض للجمال العربيّة عند الحداء وحكايتها مشهورة. ويترنّم الإنسان بنوع من التّرنّمات يطلب بها إحداث بعض الأحوال التي يمكن عروضها له وإزالتها إذ عرضته أو [إنماؤها] أو تنقيصها ويترنّم بنوع آخر يقصد بها ترويح الأقاويل المقرونة بها من الخطب والأشعار وغيرها في التّفهيم و[التّخييل] فصارت أنواع التّرنّمات عندهم ثلاثة : الملذّة والإنفعاليّة والمروّجة. ثمّ أخذت هذه التّلحينات تنشؤ عند كلّ واحد قليلا قليلا وفي زمان بعد زمان وفي قوم بعد قوم حتّى حصلت جماعة كانت لهم قرائح تأتّت لهم بها ترنّمات في واحد من المقاصد الثّلاثة لم يتأتّ لأحد قبلهم مثلها فاشتهرت واشتهروا [واجتذى جذوبهم] في ذلك فصار ينموا ويتزايد حينا بعد حين. ثمّ لمّا اختلف أغراض أصحاب المقاصد الثّلاثة خلطوا بعض تلك التّرنّمات ببعض فجعلوها ألحانا إنسانيّة مقترنة بأقاويل شعريّة حتّى تتكوّن ملذّة مؤثّرة في الإنفعالات مروّجة لمعاني الأقوال المقرونة إليها فراموا بها زيادة إصغاء السّامعين إليها. ثمّ لمّا كثر المتأمّلون لها والمتنافسون فيها وتصرّف أصحاب القرائح فيها بالزّيادة والنّقصان آذنت أن يبلغ الفنّ العملي كماله، ثمّ بعد ذلك وجدوها متى ساوقتها نغم أخر مسموعة من أجسام صالحة لذلك كانت [.] وألذّ مسموعا وأطوع لإدراك ماهيّة تفاوتها وكمّيّاتها وكيفيّاتها باختلاف أماكنها من تلك الأجسام فطلبوا لذلك أجساما معطية للنّغم ثمّ نظروا من أيّ مكان من أجزاء تلك الأجسام تخرج نغمة من النّغمات التي تخيّلوها أجزاء للألحان المحفوظة عندهم فعرفوا أمكنتها وحدودها فأعلموا عليها وهذا أوّل مسئلة من نظريّ هذا الفنّ خرج من القوّة إلى الفعل ثمّ بعد ذلك لا يزالون يتحرّون من طبائعهم آلات تعطيهم تلك النّغم أكمل وأجود وكلّما اهتدوا لآلة ثمّ أحسّ فيها بخلل أزالوه حتّى حدثت الآلة المسمّاة بالعود، فعند ذلك كملت الصّناعة العمليّة من الموسيقى واستقرّ أمر الألحان فعرف أيّ الألحان طبيعيّة للإنسان وأيّها غير طبيعيّة نريد بها الملائمة والمنافرة، وأيّ الملائمات أشدّ ملائمة وأيّها أقلّ إلى أن ينتهي إلى ما ليس بملائم أصلا، فصارت الملائمات التّامّة الملائمة بمنزلة الأغذية الطّبيعيّة للأبدان وما دون ذلك في الملائمة بمنزلة الفواكه وما دونها بمنزلة الأدوية وما ليس بطبيعي بمنزلة السّموم كالأصوات الهائلة والحادّة التي ليس في قوّة الإنسان احتمالها وعند ذلك كثرت المسائل العمليّة وعلى هذا إلى أن صار علما مدوّنا.
فبهذه المقدّمات ظهر تقدّم العملي من هذا الفنّ على نظريّه وتسملّ المبادئ التّجريبيّة من صاحب العمل كما يُتسلّم منه أنّ بين نغمتي البمّ وسبّابة المثنى في العود مثلا أعظم الإتّفاقات، ولا تظنّنّ أنّ ذلك التسلّم تقدح في علم صاحب النّظري فإنّه كتسلّم الطّبيب كيفيّة صور الأعضاء وطبائع الأدوية من غيره، وقد تبيّن أنّ كثيرا من القدماء المشهورين بالبراعة في هذا العلم لم يكونوا مرتاضي الأسماع في جميع ماهو طبيعي للإنسان من النّغم والألحان كما يحكى عن بطليموس التّعاليمي أنّه ذكر في كتابه المسمّى بطيلاوس في الموسيقى إنّه لا يحسّ بكثير من ملائمات النّغم وإذا أراد امتحانها أمر الموسيقار الحاذق المرتاض بامتحان ذلك كلّه وكما ينقل عنه ثامسطيوس البارع في الفلسفة من أجلّة أصحاب أرسطو ومن المتبحّرين في مذهبه أنّه نصّ على مثل ذلك بقوله إنّي أعلم ممّا تعاطيت من التّعاليم أنّ النّغمة المفروضة موافقة للّتي تسمّى الوسطى ولا أحسّ باتّفاقها لقلّة ارتياضي بهذا الباب، وهاتان النّغمتان هما مطلق البمّ وسبّابة المثنى المتقدّم ذكرهما فقد اعترف هذا الفاضل بعدم معرفته باتّفاقهما ذوقا وقد علم اتّفاقهما بطريق النّظر ولم يقدح ذلك في علمه. وهذا أرسطو يقول في اقولوطيقا الثّانية إنّ كثيرا ممّن يتعاطى النّظر في الكلّيّات لا يحسّ بالجزئيّات لأنّ ذلك يحوج إلى قوّة غير قوّة العلم مثال ذلك صاحب الموسيقي النّظري فإنّه ربّما لم يكن عنده معرفة كثير ممّا علمه من طريق الحسّ وإن كان قد عرفه في علمه هذا كلامه. ويستدلّ من جملة ما أوردنا أنّ هذا الفنّ لا يحتاج فيه إلى مباشرة عمل أصلا بل هو إمّا اعتقاد صرف أو اعتقاد بكيفيّة مباشرة العمل ولا يدخل لنفس مباشرة العمل فيه كما في قسمي الطّبّ نظريّة وعمليّة. وأمّا معرفة علل تلك التّأثيرات المختلفة التي تقدّم ذكرها فيتبيّن في علم الطّبيعي عند بيان تأثير سائر المحسوسات في المدركات والقول الجملي فيه أنّ اللّذّة والأذى إنّما يتّبع كمالات الإدراك ولا كمالاتها ونحن نتسلّم تفاصيلها من صاحب الطّبيعي على طريق المصادرة. فهذه جملة ما أردنا تقديمه والآن نبتدئ بشرح كلامه فنقول وباللّه التّوفيق :
أمّا قوله أن أضع مختصرا في معرفة النّغم ونسب أبعادها وأدوارها وأدوار الإيقاع على نهج يفيد العلم والعمل فيظهر منه أنّ الرّسالة مشتملة على ما عدّه من ضروريّات مباحث العلم لا على شعبه وفروعه ومأخذه وأصوله ويأتي معنى النّغمات والأبعاد والأوتار وجعلت مداره أوّلا على وتر واحد لئلّا يتعذّر على المبتدئ استخراجه. قد تبيّن في المقدّمة أنّ تقاوت الأصوات ظهر عند معرفة القدماء أمكنة النّغمات من أجسام تنتجها فلا جرم احتاجوا في التّعليم إلى الإستناد إلى شيء من الآلات. والآلات التي لها أوتار أطوع للتّفهيم بطريق التّعليم على ما سيجيء والأوتار رذا كانت متعدّدة لاحتياج إلى اصطحاب وهو في اللّغة تجاوب الأصوات قال الشّاعر إنّ الضّفادع في العذران تصطحب، وفي اصطلاحهم مصادقة وترين أو أكثر حتّى تكون نسبة أحدها إلى الآخر نسبة معيّنة ويحصل بإرخاء بعضها وتمديد الآخر وإذا كان الوتر واحدا كان أسهل للتّعليم وذلك لأنّ الأصعب على من يروم المباشرة عملا هو اصطحاب الأوتار. والوتر لا يفتقر إلى اصطحاب أصلا إذ الإصطحاب نسبة مطلق وتر إلى آخر وإدراك كون الوترين على النّسبة المعيّنة يتوقّف على الإرتياض البالغ في سماع النّغمات والمهارة في العمل فلا يجدي للمبتديء نفعا.
ورتّبته فصولا، رتّب الكاتب على هذه الفصول من غير حصر بل وضع لكلّ جملة من مباحثه فصلا وذلك لعدم اعتنائه إلى ترتيب الكتاب كما نبّهنا عليه من قبل فلم يتكلّف لاختراع وجه الحصر لأنّه لا يخلو من تمحّل ولا طائل تحته إلّا الإطناب والإسهاب وفي الجملة فالفصول الأربعة الأولى ذكر فيها مبادئ هذا العلم أكثر من مسائله وفي الباقية أكثرها مسائله.
وَلَمَّا كَانَتِ النَّغْمَةُ مَوْضُوعَ العِلْمِ ابْتَدَأَ بِتَعْرِيفِهَا فَقَالَ : « النَّغْمَةُ صَوْتٌ لَابِثٌ زَمَانًا مَّا عَلَى حَدٍّ مِنَ الحِدَّةِ وَالثِّقَلِ، مَحْنُونٌ إِلَيْهِ بِالطَّبْعِ ». وَقَدِ اخْتَلَفَ أَقَاوِيلُ أَرْبَابِ الصِّنَاعَةِ فِي تَعْرِيفِهَا فَالشَّيْخُ المُقَدِّمُ [72 أ] أَبُو نَصْرٍ قَالَ : « النَّغْمَةُ صَوْتٌ وَاحِدٌ لَابِثٌ زَمَانًا ذَا قَدْرٍ مَحْسُوسٍ فِي الجِسْمِ الَّذِي فِيهِ يُوجَدُ، فَقَوْلُهُ صَوْتٌ كَالجِنْسِ لَهَا وَبَاقِي القُيُودِ كَالمَفْصَلِ وَالخَاصَّةِ، فَاحْتَرَزَ بِوَاحِدٍ عَنِ الكَثِيرِ، وَبِقَوْلِهِ « لَابِثٌ زَمَانًا ذَا قَدْرٍ مَحْسُوسٍ » [احْتِرَازٌ] عَنْ مِثْلِ صَوْتِ الصَكَّةِ وَالضَّرْبَةِ فَلَيْسَ لَهَا لَبَثٌ يُحَسِّ بِهِ. وَبِقَوْلِهِ فِي الجِسْمِ الَّذِي يُوجَدُ فِيهِ عَنْ مِثْلِ لَبَثِ الصَّوْتِ فِي طَرِيقِ الوُصُولِ إِلَى السَّامِعَةِ، فَإِنَّ وُصُولَ صَوْتِ المِطْرَقَةِ المَضْرُوبَةِ عَلَى صَخْرَةٍ فِي قُلَّةِ جَبَلٍ إِلَى الشَّخْصِ الوَاقِفِ فِي حَضِيضِهِ يَحْتَاجُ إِلَى زَمَانٍ، وَلِذَلِكَ يَسْمَعُ الصَّوْتَ بَعْدَ رَفْعِ الضَّارِبِ يَدَهُ فَحَصُلَ لِلصَّوْتِ لَبَثٌ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، لَكِنْ لَا فِي الجِسْمِ الَّذِي يُوجَدُ فِيهِ بَلْ فِي الطَّرِيقِ بِتَمَوُّجِ الهَوَاءِ، كَمَا يُبَيَّنُ فِيمَا سَيَأْتِي، وَكَالصَّدَاءِ، فَإِنَّ لَهُ لَبَثًا لَكِنَّهُ لَيْسَ فِي الجِسْمِ ذِي الصَّوتِ بَلَ حَدَثَ عَنْ قَرْعِ الهَوَاءِ الجِسْمَ الَّذِي لَهُ الصَّدَاءُ، فَهْوَ فِي الحَقِيقَةِ صَوْتٌ آخَرُ.
وَالشَّيْخُ الرَّئِيسُ قَالَ : « النَّغْمَةُ صَوْتٌ لَابِثٌ زَمَانًا مَّا عَلَى حَدٍّ مَّا مِنَ الحِدَّةِ وَالثِّقَلِ »، فَاكْتَفَى بِتَنْكِيرِ صَوْتٍ عَنْ قَوْلِهِ وَاسْتَغْنَى بِقَوْلِهِ « لَابِثٌ زَمَانًا » عَنْ ذَا قَدْرٍ مَحْسُوسٍ، إِذْ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ اللَّبَثِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ ذَا قَدْرٍ مَحْسُوسٍ. وَجَاءَ بِقَوْلِهِ « عَلَى حَدٍّ مَّا مِنَ الحِدَّةِ وَالثِّقَلِ بَدَلًا عَنْ قَوْلِ الشَّيْخِ « فِي الجِسْمِ الَّذِي فِيهِ يُوجَدُ لِأَنَّ الإِحْسَاسَ بِكَوْنِ اللَّبَثِ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ مِنَ الحِدَّةِ وَالثِّقَلِ لَا يُمْكِنُ إِلَاّ عِنْدَ لَبَثِ الصَّوْتِ فِي السَّامِعَةِ وَلَا يَلْبَثُ فِي السَّامِعَةِ إِلَّا عِنْدَ لَبَثِهِ فِي الجِسْمِ الَّذِي فِيهِ يُوجَدُ. وِفِيهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهْيَ كَوْنُ حَدِّهِ مِنِ الحِدَّةِ وَالثِّقَلِ حَدًّا وَاحِدًا جُمْلَةُ ذَلِكَ الزَّمَانِ، إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يَتَبَدَّلَ حِدَّتُهُ وَثِقَلُهُ فِي كُلِّ آنٍ.
وَاعْتَرَضَ صَاحِبُ الكِتَابِ عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ فِي رِسَالَتِهِ المَوْسُومَةِ بِالشَّرَفِيَّةِ بِقَوْلِهِ « كُلُّ صَوْتٍ فَإِنَّهُ لَا يَعْرَى عَنْ حِدَّةٍ وَثِقَلٍ مَّا كَأَنَّ الصَّوْتَ هُيُولِي وَالحِدَّةُ وَالثِّقَلُ صُورَةٌ وَلَا يُوجَدَانِ إِلَّا مَعًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ يَلْبَثُ زَمَانًا ذَا قَدْرٍ مَحْسُوسٍ كَمَا يُسْمَعُ مِنْ جَرِّ الأَجْسَامِ عَلَى صَفَحَاتِ الأَرْضِ، وَلَهُ قِسْطٌ مِنَ الحِدَّةِ وَالثِّقَلِ بِحَسَبِ صَلَابَةِ الجِسْمِ أَوِ الجِسْمَينِ وَتَخَلْخُلِهِ أَوْ تَخَلْخُلِهِمَا وَلَيْسَتْ بِنَغَمَاتٍ، فَيَفْتَقِرُ حِينَئِذٍ إِلَى خَاصَّةٍ يَمْتَازُ بِهَا النَّغْمَةُ عَنِ الصَّوْتِ ». * قارن بتحقيق لسعد قريعة (2008)، ص. 71. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الصَّوْتَ فِي الِمثَالِ المَذْكُورِ [قَدْ] لَبَثَ عَلَى حَدٍّ وَاحِدِ زَمَانًا بَلْ يُمْكِنُهُ تَغَيُّرُ حِدَّتِهِ وَثِقَلِهِ فِي كُلِّ آنٍ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُحَسَّ بِمِقْدَارِ حِدَّتِهِ وَثِقَلِهِ كَيْفَ يُحَسُّ بِلَبَثِ ذَلِكَ المِقْدَارِ عَلَيْهِ ؟
وَزَادَ بَعْضُ المُتَأَخِّرِينَ قَيْدًا عَلَى تَعْرِيفِ الشَّيْخِ الرَّئِيسِ وَهْوَ قَوْلُهُ « مَحْنُونٌ إِلَيْهِ طَبْعًا » وَهْوَ مَا ارْتَضَاهُ المُصَنِّفُ فِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ، أَمَّا فِي الشَّرَفِيَّةِ فَقَالَ : « وَلَيْسَ قَوْلُ القَائِلِ مَحْنُونٌ إِلَيْهِ طَبْعًا مِمَّا يُخَصِّصُ النَّغْمَةَ، فَقَدْ تُسْمَعُ النَّغَمَاتُ مِنْ حُلُوقٍ مُسْتَبْشَعَةٍ يَكْرَهُهَا السَّامِعُ [72ب] مَعَ أَنَّهَا تُعَدُّ نَغَمًا »، وَهَذَا كَمَا قَالَهُ ثُمَّ رَسَمَهَا بِأَنَّهَا صَوْتٌ يُمْكِنُ إِدْرَاكُ تَفَاوُتِ الكَمِّيَّةِ مِنْ ثِقَلِهِ أَوْ حِدَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى آخَرَ، وَلَوْ لَا هَذِهِ الخُصُوصِيَّةِ لَكَانَتِ الأَصْوَاتُ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهَا صَالِحَةً لِلتَّأْلِيفِ اللَّحْنِيِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. أَقَولُ، هَذَا الرَّسْمُ يُمَيِّزُ النَّغْمَةَ عَنِ الصَّوْتِ بَعْضَ التَّمَيُّزِ بِسَبَبِ ذِكْرِ إِدْرَاكِ تَفَاوُتِ الكَمِّيَّةِ لِأَنَّ كُلَّ صَوْتَيْنِ إِمَّا أَنَ يَتَسَاوَيَا فِي الحِدَّةِ وَالثِّقَلِ أَوْ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ حِدَّةً أَوْ ثِقَلًا، وَعَلَى كُلِّ التَّقْدِيرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَا بِحَالٍ يُمْكِنُ إِدْرَاكُ كَمِّيَّةِ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا لَوِ اخْتَلَفَا أَوْ [[...]] أَوْ لَا يَكُونُ. فَإِنْ كَانَا كَذَلِكَ فَهُمَا نَغْمَتَانِ لَكِنْ أُهْمِلَ فِيهِ الرُّكْنُ المُعْتَبَرُ وَهْوَ اللَّبَثُ الزَّمَانِي، فَإِنَّا لَوْ فَرَضْنَا صَكَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا عَلَى جِسْمٍ صَلْبٍ وَالأُخْرَى عَلَى جِسْمٍ مُتَخَلْخِلٍ فَلَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يُمْكِنَ إِدْرَاكُ تَفَاوُتِ الكَمِّيَّةِ بَيْنَهُمَا وَإِذَا كَانَتَا كَذَلِكَ كَانَتَا نَغْمَتَيْنِ عَلَى تَعْرِيفِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الأَمْرُ عَلَى هَذَا لَمَا احْتِيجَ فِي إِحْدَاثِ النَّغَمَاتِ إِلَى اتِّخَاذِ الآلَاتِ عَلَى شَرَائِطَ مُعَيَّنَةِ فَعُلِمَ أَنَّ اخْتِيَارَ المُصَنِّفِ تَعْرِيفَ الشَّيْخِ الرَّئِيسِ فِي الرِّسَالَةِ أَجْوَدُ مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي الشَّرَفِيَّةِ، وَلَوْ زِيدَ عَلَيْهِ قَوْلُنَا « يُمْكِنُ إِدْرَاكُ تَفَاوُتِ كَمِّيَّةِ حِدَّتِهِ وَثِقَلِهِ » بَدَلًا عَنْ قَوْلِ القَائِلِ « مَحْنُونٌ إِلَيْهِ طَبْعًا » لَكِنَّ تَعْرِيفًا جَامِعًا مَانِعًا وَهْوَ قَوْلُنَا « صَوْتٌ لَابِثٌ زَمَانًا عَلَى حَدٍّ مَّا مِنَ الحِدَّةِ وَالثِّقَلِ يُمْكِنُ إِدْرَاكُ تَفَاوُتِ كَمِّيَّةِ حِدَّتِهِ وَثِقَلِهِ بِالقِيَاسِ إِلَى أُخْرَى مُخَالِفَةٍ لَهَا ».
وَلَمَّا كَانَ الصَّوْتُ جِنْسًا لِلنَّغْمَةِ احْتَجْنَا إِلَى تَعْرِيفِهِ، وَهْوَ كَيْفِيَّةٌ تُحِسُّ بِهَا السَّامِعَةُ عِنْدَ اصْطِكَاكِ جِسْمَيْنِ، وَالاصْطِكَاكُ مُصَادَمَةٌ مَعَ مُقَاوَمَةِ المَزْحُومِ لِلزَّاحِمِ. وَأَمَّا السَّمْعُ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْرِيفٍ لِأَنَّ مَنْ لَهُ هَذِهِ القُوَّةِ فَعِنْدَهُ بَدِيهِيٌّ، وَمَنْ لَيْسَتْ لَهُ فَلَا يَتَصَوَّرُهُ بِالتَّعْرِيفِ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ إِحْسَاسِ السَّامِعَةِ بِالصَّوْتِ فَإِنَّ الهَوَاءَ إِذَا انْضَغَطَ وَنَبَا مِنْ بَيْنِ الجِسْمَيْنِ المُصَطَكَّيْنِ [فَإنَّهُ] يُحَرِّكُ الجُزْءَ المُجَاوِرَ لَهُ بِسَبَبِ نُبُوِّهِ فَيَقْبَلُ الكَيْفِيَّةَ الَّتِي قَبِلَهَا الجُزْءُ الأَوَّلُ مِنَ المُصَادَمَةِ، وَيُحَرِّكُ الثَّانِي الثَّالِثُ فَيَقْبَلُ مَا قَبِلَهُ وَالثَّالِثُ رَابِعًا فَلَا يَزَالُ هَذَا التَّنَاوُلُ مِنْ جُزْءٍ إِلَى جُزْءٍ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِ مَوْضِعِ المُصَاكَّةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ فِي جِهَةٍ حَتَّى يَنْصَدِمَ الجُزْءُ المَوجُودُ فِي الصِّمَاخِ المُجَاوِرِ لِلْعِضْوِ الَّذِي فِيهِ القُوَّةُ السَّامِعَةُ، فَتَحِسُّ بِهَ كَمَا يُشَاهَدُ فِي تَمَوُّجِ المَاءِ الرَّاكِدِ عَلَى اسْتِدَارَةٍ عِنْدَ إِلْقَاءِ الحَصَاةِ فِيهِ وَأُحِسَّتْ شَكْلُ الهَوَاءِ المُتَمَوِّجِ عِنْدَ عِدَمِ المَانِعِ شَكْلُ بَيْضٍ أَغْلَظُ أَجْزَائِهِ دَائِرَةٌ عَظِيمَةٌ مُوَازِيَةٌ لِدَائِرَةِ أُفُقِ مَوْضِعِ المُصَاكَّةِ وَفَوْقَهَا دَوَائِرُ مُتَوَازِيَةٌ وَمُوَازِيَةٌ لِلْعَظِيمَةِ، كُلُّ وَاحِدَةٍ أَصْغَرُ مِمَّا تَحْتَهَا كَالمُقَنْطَرَاتِ [73 أ] إِلَى أَنْ يَنْتَهِي إِلَى نُقْطَةٍ، وَكَذَلِكَ فِيمَا تَحْتَ الدَّائِرَةِ العَظِيمَةِ، إِلَّا أَنَّ الدَّوَائِرَ الفَوْقَانِيَّةَ أَعْظَمُ مِنَ التَّحْتَانِيَّةِ، فَيَكُونُ الخَطُّ الوَاصِلُ بَيْنَ النُّقْطَةِ الفَوْقَانِيَّةِ وَمَرْكَزِ العُظَيْمَةِ أَطْوَلُ مِنَ الوَاصِلِ بَيْنَ التَّحْتَانِيَّةِ وَالمَرْكَزِ وَذَلِكَ لِمُعَاوَقَةِ طَبِيعَةِ الهَوَاءِ لِلْحَرَكَةِ القَسْرِيَّةِ الَّتِي إِلَى تَحْتٍ وَمُعَاوَنَتِهَا لِلَّتِي إِلَى فَوْقٍ وَلَا يَقْدَحُ فِيمَا أَوْرَدْنَا مَا يُقَالُ إِنَّ مِنَ الاسْطِقْسَاتِ إِذَا حَصَلَ فِي مَكَانِهِ لَا يَبْقَى لَهُ مَيْلٌ إِلَى جِهَةٍ لِأَنَّ المُرَادَ مِنَ المَكَانِ نِهَايَتُهُ وِفِيمَا دُونِهَا لَا يُظْهَرُ المَيْلَ لِحَيْلُولَةِ الاسْطُقْسِ الآخَرِ أَوْ سَائِرِ أَجْزَاءِ نَفْسِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَجْهَيْهِ وَلَوْ فُرِضَ ارْتِفَاعُ الحَائِلِ لَوُجِدَ المَيْلُ. وَلَا يُقَالُ إِنَّ المَيْلَ يَحْدُثُ بِارْتِفَاعِ المَانِعِ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ عِلَّةً لِأَمْرٍ وُجُودِيِّ فليتأمّل وَيَتَغَيَّرُ هَذَا الشَّكْلُ بِهُبُوبِ الرِّيَاحِ وَغَيْرِهَا مِنَ المَوَانِعِ وَلِكَوْنِ التَّمَوُّجِ حَرَكَةً أذُنِيَّةً (في الأصل : ذينية) كُلَّمَا كَانَ الصَّوْتُ مِنْ مَكَانٍ أَبْعَدَ كَانَ أَبْطَأَ وُصُولًا إِلَى السَّمْعِ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي مِثَالِ الصَّكَّةِ عَلَى القُلَّةِ، وَمِنْ هَهُنَا يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ الإِحْسَاسَ بِالأَصْوَاتِ مِنْ طَرِيقِ التَّمَوُّجِ وَالتَّدَاوُلِ المَذْكُورَيْنِ.
وَالشَّيْخُ المُقَدَّمُ أَبُو نَصْرٍ أَوْرَدَ فِي كِتَابِهِ عِنْدَ ذِكْرِ الصَّوْتِ كَلَامًا مُشْبَعًا وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ المُصَنِّفُ فِي الشَّرَفِيَّةِ بِشُكُوكٍ :
[1.] مِنْهَا أَنَّهُ قَالَ فِي أَثْنَاءِ ذِكْرِهِ أَقْسَامَ المُصَادَمَاتِ وَالمُزَاحَمَاتِ بَيْنَ الأَجْسَامِ المُخْتَلِفَةِ أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الزَّاحِمِ وَالمَزْحُومِ مُقَاوَمَةٌ لَمْ يُوجَدْ فِي الجِسْمِ الَّذِي زُحِمَ صَوْتٌ فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ يُوهِمُ اخْتِصَاصَ الصَّوْتِ بِالمَزْحُومِ دُونَ الزَّاحِمِ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الصَّوْتَ المَسْمُوعَ مِنْ مُصَادَمَةِ حَجَرِ حَجَرًا لَا يُقَالُ بِخُصُوصِيَّتِهِ المَزْحُومَ دُونَ الزَّاحِمِ وَبِالعَكْسِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ مُرَادَهُ مِنَ الزَّاحِمِ أَمْثَالُ الخَشَبِ الَّتِي تُزَاحِمُ الطُّبُولَ وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّوْتَ يَخْتَصُّ بِالطُّبُولِ لَا بِالخَشَبِ فَاعْتَبَرَهَا مُطَّرِدَة وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى المُتَحَرِّكِ وَالسَّاكِنِ فَإِنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّا نُزَاحِمُ بِطَبْلٍ خَشَبًا لَمْ يَكُنِ الطَّبْلُ زَاحِمًا بَلْ هُوَ الخَشَبُ، إِذِ الخَشَبُ يُزَايِلُ سَطْحَ الطَّبْلِ عَنْ مَكَانِهِ بَعْضَ المُزَايَلَةِ فِي الحَالَيْنِ.
[2.] وَمِنْهَا أَنَّهُ شَرَطَ فِي حُدُوثِ الصَّوْتِ أَنْ تَكُونَ قُوَّةُ المَزْحُومِ دُونَ قُوَّةِ الزَّاحِمِ، فَقَالَ المُصَنِّفُ وَذَلِكَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فَقَدْ يَتَسَاوَى القُوَّتَانِ وَقَدْ يَضْعُفُ قُوَّةُ الزَّاحِمِ دُونَ قُوَّةِ المَزْحُومِ مَا يُضْعِفُ قُوَّتَهُ، هَذَا إِذَا اخْتَلَفَ القُوَّتَانِ. أَمَّا إِذَا تَسَاوَى القُوَّتَانِ فِي النُّدْرَةِ فَلَا يَخْتَصُّ الصَّوْتُ بِأَحَدِ الجِسْمَيْنِ وَيَكُونُ خَارِجًا عَنِ الأَصْوَاتِ المُعْتَبَرَةِ فِي الفَنِّ فَلَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ.
[3.] وَمِنْهَا أَنَّهُ عَرَّفَ القَرْعَ بِأَنَّهُ مُمَاسَتُهُ الجِسْمَ الصَّلْبَ جِسْمًا آخَرَ صَلَبًا آخَرَ مُزَاحِمًا لَهُ عَنْ حَرَكَةٍ، وَذَكَرَ بَعْدَهَا أَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ فِي الهَوَاءِ صَوْتٌ إِذَا قُرِعَ [83 ب] بِالسِّيَاطِ، فَقَالَ المُصَنِّفُ : « فِيهِ تَنَاقُضٌ، إِذِ الهَوَاءُ لَيْسَ بِصَلْبٍ، وَلَوْ قُلْنَا أَنَّ الهَوَاءَ المُتَرَاكِمَ صَلْبٌ لَمْ يُعَدَّ، إِذِ المُرَادُ مِنَ الصَّلَابَةِ هُوَ المُمَانَعَةُ، وَهْيَ حَاصِلَةٌ فِي هَذَا الهَوَاءِ، وَإِلَاّ لَمْ يَحْدُثْ صَوْتٌ ». ثُمَّ قَالَ : وَأَيْضًا قَوْلُهُ مُزَاحِمًا لَهُ عَنْ حَرَكَةٍ فَتِكْرَارٌ إِذْ كُلُّ مُزَاحَمَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلاَّ عَنْ حَرَكَةٍ، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَحْتَرِزَ بِهِ عَنْ مُزَاحَمَةٍ فَلَا يُغْنِيهِ تِلْكَ العِبَارَةُ بَلْ إِنِ اسْتَعْمَلَ المُصَادَمَةَ بَدَلًا عَنِ المُمَاسَةِ لَأَغْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ. » وَهَذَا وَمُنَاقَشَتُهُ لَفْظِيَّةٌ {بِحَسَبِ} الإِخْتِصَارِ وَالإِطْنَابِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ الشَّيْخِ لَيْسَ مِمَّنْ يُنَاقَشُ فِي تِلْكَ المَبَاحِثِ اللَّفْظِيَّةِ مَعَ تَقَدُّمِهِ، إِذِ المَعَانِي بِأَسْرِهَا مَأْخُوذَةٌ عَنِ المُتَقَدِّمِينَ وَلَيْسَ لِلْمُتَأَخِّرِينَ إِلاَّ تَنْقِيحُ العِبَارَاتِ.
ولكلّ نغمة نظير من الحدّة والثّقل شرع في ذكر المبادىء التّجريبيّة التي فحصنا عن أمرها وقد سبق تعريف الحدّة والثّقل فاعلم الآن أنّ القوم لمّا أرادوا حصر النّغمات حبسوا أجزاء الوتر الواحد جزءا جزءا فوجدوا كلّ جزء منها [...]
وللحدّة والثّقل أسباب فأمّا سبب حدّة مطلق الأصوات فشدّة اجتماع الهواء النّابي من بين الجسمين المتصادمين وسبب ثقلها قلّة الإجتماع وما ذكرها صاحب الكتاب فهي أسباب حدّة النّغمات وثقلها ولمّا كانت النّغمات أصواتا خاصّة لمكان اللّبث فيه فحدوثها أمّا في الأشياء المهتزّة التي متى حرّكت بقيت الحركة فيها إلى جوانبها [٧٤أ] زمانا وشاعت في جزء جزء من أجزائها بعد ما فارقها المتحرّك كما في الأوتار فإنّ الحركة الباقية فيها تنقض الهواء عن جوانبها فيحدث في الهواء قرعات متّصلة فيدوم بدوام الحركة الإهتزازيّة وأمّا في أجسام مجوّفة يسرّب الهواء فيها شيئا فشيئا بدفع شديد فيقرع الهواء جوانب باطن الجسم أو أجزاء نفسه بعضه بعضا على اتّصال زمانا كما في المزامير وما شاكلها وأمّا في أجسام أخر يفعل ذلك الفعل وقد كان للقدماء آلات منتجة للنّغم غير هذين النّوعين وقد اندرس في زماننا جملتها وأساميها توجد في كتبهم من غير شرح وبقلّة المعرفة بحالها لم نذكرها.
فأسباب الثّقل طول الوتر وإرخاؤه وغلظه وسعة الثّقب في الآلات ذوات النٌفخ وبعدها من المنفاخ وأسباب الحدّة ما يقابل ذلك كقصر الوتر ودقّته وتوتّره وضيق الثّقب وقربه من فم النّافخ أمّا أسباب الثّقل في الآلات ذوات الأوتار فثلثة أحدها طول الوتر فكلّما كان وتر أطول من آخر وتساويا في الغلظ والتّوتّر كان النٌغمة الخارجة من الأطول أثقل وذلك لأنّ الحركة إذا شاعت في أجزاء الوتر ضعفت فمتى كانت الأجزاء أكثر كانت الحركة أضعف لكون حصّة كلّ جزء من الحركة أقلّ فيضعف النّفض ويقلّ اجتماع أجزاء الهواء وتراكمها وذلك هو السّبب في ثقل الأصوات فبالضّرورة تكون النّغمة الخارجة من تمام أيّ وتر فرض أثقل من الخارجة من بعض أجزائه وثانيها غلظ الوتر وهو أيضا يوجب ضعف النّفض لمثل ما قلنا وثالثها إرخاؤه وهو أيضا موجب لضعف النّفض لسهولة حركته عن مكانه وأمّا أسباب الحدّة فأيضا ثلثة وهي أضداد ما ذكر وهي قصر الوتر ودقّته وتوتّره لأضداد ما ذكرنا فيكون نغمة الوتر الطّويل الغليظ الموخي ثقيلة جدّا والقصير الدّقيق الشّديد التّوتّر حادّة جدّا واعتبر امتزاج تلك الأسباب برأيك وأمّا في الآلات ذوات النّفخ فالثّقل من سعة التّجاويف التي هي مجاري الهواء فيها وسعة الثّقوب التي هي متخلص الهواء منها وبعد المتخلص عن فم النّافخ وضعف النّفخ أمّا ضيق التّجاويف فلأنّه متى كان مجار الهواء أضيق كان ازدحام أجزائه ومصاكّتها أشدّ فيكون النّغمة الحادثة منه أحدّ وفي السّعة بالعكس وكذلك الحال في ضيق الثّقب وسعتها وأمّا القرب والبعد من الدّافع فهما موجبان لشدّة اجتماع أجزاء الهواء وضعفه لأنّ الحركة القسريّة كلّما ازداد بعدا من القاسر إزداد ضعفا وأمّا [٧٤ب] شدّة النّفخ وضعفه فتأثيرهما في الحدّة والثّقل ظاهر واعلم أنّا بيّنّا أنّ اختلاف الألحان بسبب اختلاف نسب النّغمات الموجودة فيها في الحدّة والثّقل واختلاف تلك النّسب نابع لاختلاف تلك الأسباب الموجبة لهما لكن ليس كلّ واحدة من هذه الأسباب ممّا يسهل الوقوف على كمّيّة مقادير تفاضلها مثل توتّر الأوتار فإنّ إدراك مقدار التّفاوت فيها لا يحسن إلاّ للمرتاض مثل أن يعلم بالحسّ أنّه أي مقدار بحسب أن يمدّ كلّ واحد من الوترين حتّى يكون أحدهما ضعف الآخر في التّوتّر أو الإرخاء بخلاف الطّول والقصر فإنّهما من الكمّ المتّصل الممكن تجزئته وتقسيمه إلى حيث يراد وأمّا الآلات ذوات النّفخ فيمكننا الوقوف على مقادير سعة تجاويفها والثّقب المستديرة التي على سطوحها بتقدير أقطارها وكذا مقادير قربها وبعدها من المنفاخ لكن لا يتيسّر لنا تقدير شدّة النّفخ وضعفه أصلا وأكثر النّغمات في تلك الآلات يستخرج لشدّة النّفخ وضعفه لأنّ الثّقب في تلك الآلات أقلّ من تلك النّغمات المستخرجة منها فالسّبب في اختلاف بعض نغماتها مع بعض هي شدّة النّفخ وضعفه ولذلك ترك الإسناد إلى تلك الآلات في نظريّ هذه الصّناعة لتعذّره فظهر ممّا قلنا سبب إيراد المصنّف بين النّغمات أولا في وتر واحد وهو أن لا يحتاج إلى غير الطّول والقصر من أسباب الحدّة والثّقل.
والشّيخ المقدّم أورد في كتابه إنّ زحم القارع متى كان أشدّ كان الصّوت أحدّ من قبل أنّه يفعل في الهواء [[.]] اجتماعا أشدّ ومتى كان الزّحم أضعف كان الصّوت أثقل واعترض عليه صاحب الكتاب بأنّ ذلك غير مطّرد إذ لو كان كذلك لأمكن إيجاد نغمات مختلفة الحدّة والثّقل من مطلق الوتر الواحد بمجرّد شدّة قرع القارع للوتر وضعفه وهذا معلوم البطلان وأقول لا نسلّم أنّه يوجب ما قاله من قبل أنّ النّغمة في ذوات الأوتار إنّما تحدث من حركة الوتر ونفضه الهواء من جوانبه فالقارع هو الوتر والمقروع هو الهواء وشدّة قرع الوتر للهواء تابعة لأسباب الحدّة التي ذكر وضعفه تابع لأسباب الثّقل ولا يحدث بشدّة قرع المضراب لمطلق الوتر شيء من أسباب الحدّة ولا بضعفه شيء من أسباب الثّقل وقول الشّيخ باق على عمومه لأنّ النّغمة ليست هي صوت الهواء النّابي من بين المضراب والوتر عند قرعه بل هي صوت الهواء المقروع باهتزاز الوتر فإذا وافق تلك الحالة [٧٥أ] قصر الوتر أو دقّته أو توتّره كانت القرعات الإهتزازيّة شديدة والنّغمة حادّة وإن وافق شيئا من أضدادها كانت القرعات ضعيفة والنّغمة ثقيلة ولو كانت النّغمة صوت قرعة المضراب على الوتر لوجدت عند قرعه لم ينفصل المضراب عن الوتر والوجود بخلافه وغاية ما في [[..]] قرع المضراب على الوتر علّة بعيدة لحدوث النّغمة فظهر أنّ كلام الشّيخ لا غبار عليه ثمّ قال المصنّف بعد الإعتراض بل الحقّ أن يقال أنّها يزداد جهارة بشدّة القرع وخفاتة بضعفها لا حدّة وثقلا وذلك حقّ لا ينافي ما قلنا. فهذه جملة المبادئ المأخوذة من الطّبيعيّات.
فهرست شلواح 1979: [330]
فهرست شلواح 2004: [None]