أول من اتخذ العود رجلٌ يقال له لامَك وُلد له على كبر سنّه ابن، [فمات]، فأصيب به واشتد وجده عليه فعمد إلى عود واتخذ كهيأة الصبي شبه صدر العود بالفخذ وإبريقه بالقدم والملاوي بالأصابع والأوتار بالعروق ثم ضرب به، وكانت له ابنة يقال لها ملاهي، وهي أول من اتخذت المعازف والطبول. وأول من عمل الطنابير قوم لوط كانوا يستميلون بها الغلمان المرد. وأما الزمر وشبهه فللرعاء والأكراد. وكان أول من غنّى من العرب جذيمة بن سعد الخزاعي وذلك بعد جرادتي عاد، وكان من أحسن الناس صوتاً فسمي المصطلق فغنى بالركبانية، ويقال إن أول من غنى باليمن رجل من حمير يقال له عنبس: وأول من غنى بالحرمين طويس. وأول امرأة قطعت يدها في الإسلام في السرق بنت سفيان بن عبد الأسد من بني مخزوم قطعها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال: لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعتها. ومن الرجال الخيار بن عدي بن نوفل.
قال يونس بن حبيب النحوي: أول من أسس العربية وفتح بابها ونهج سبيلها أبو الأسود الدئلي واسمه ظالم بن عمرو. فقال له الحجاج: أتسمعني ألحن على المنبر؟ قال: كلا، الأمير أفصح العرب. قال: أقسمت عليك! قال: حرفاً واحداً تلحن فيه. فقال: وما هو؟ قال: في القرآن. قال: ذاك أشنع له، فما هو؟ قال: تقول لو كان آباؤكم وأبناؤكم، حتى تبلغ: أحب إليكم من الله ورسوله، تقرأها بالرفع. قال فقال له: لا جرم لا تسمع لي لحناً أبداً. فنفاه إلى خراسان وعليها يزيد بن المهلب. فكتب يزيد إلى الحجاج: إنا لقينا العدو وفعلنا وصنعنا واضطررناهم إلى عرعرة الجبل، فقال الحجاج: ما لابن المهلب ولهذا الكلام؟ فقيل: ظالم بن عمرو هناك. قال: فذاك إذاً.
قال وقال المأمون وقد سمع من بعض ولده كلاماً أسرع فيه اللحن إلى لسانه: ما على أحدكم أن يتعلم العربية فيقيم بها أوده ويزين مشهده ويتملك مجلس سلطانه بظاهر بيانه ويقلّ حجج خصمه بسكنات حكمته، أويسرُّ أحدكم أن يكون لسانه كلسان عبده وأمته ولا يزال أسير كلمته؟ قاتل الله القائل حيث يقول:
ألم تر مفتاح الفؤاد لسانه ... إذا هو أبدى ما يقول من الفم
وكائن ترى من صامتٍ لك معجبٍ ... زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده ... ولم يبق إلا صورة اللحم والدم
وفي الحديث المرفوع: رحم الله عبداً أصلح لسانه.
قيل: وكتب غسان بن رفيع إلى أبي عثمان بكر بن محمد المازني النحوي:
تفكرت في النحو حتى مللت ... وأتعبت نفسي به والبدن
وأتعبت بكراً وأصحابه ... بطول المسائل في كل فن
فكنت بظاهره عالماً ... وكنت بباطنه ذا فطن
خلا أن باباً عليه العفا ... ء للفاء يا ليته لم يكن
وللواو بابٌ إلى جنبه ... من المقت أحسبه قد لعن
إذا قلت هاتوا لماذا يقا ... ل لست بآتيك أو تأتين
أجيبوا لما قيل هذا كذا ... على النصب قالوا لإضمار أن
قال: وكان الوليد بن عبد الملك لحّانة فدخل عليه أعرابي فقال: من ختنَك؟ قال: رجل من الحي لا أعرف اسمه. فقال عمر بن عبد العزيز: إن أمير المؤمنين يقول: من ختنُك؟ فقال: ها هوذا بالباب. فقال الوليد لعمر: ما هذا؟ فقال: النحو الذي كنت أخبرك عنه. فقال: لاجرم لا أصلي بالناس حتى أتعلمه.
وسمع إعرابي رجلاً يقول: أشهد أن محمد رسول الله. فقال: يفعل ماذا؟ قال وقال مولى لزياد: أيها الأمير أخذوا لنا همارَ وهشٍ. فقال له: ما تقول ويحك؟ فقال: أخذوا لنا أيراً " يريد عيراً ". فقال زياد: الأول خير.
قال: وجاء رجل إلى زياد فقال: إن أبينا هلك وإن أخينا غصبنا على ميراثنا من أبانا. فقال زياد: ما ضيعت من نفسك أكثر مما ضيعت من ميراثك، فلا رحم الله أباك حيث ترك ولداً مثلك.
قال: وعزم رجل من أهل الشام على لقاء المأمون فاستشار رجلاً من أصحابه فقال: على أي جهة أصلح أن ألقى أمير المؤمنين؟ قال: على الفصاحة، قال: ليس عندي منها شيء وإني لألحن في كلامي كثيراً. قال: فعليك بالرفع فإنه أكثر ما يستعمل. فدخل على المأمون فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال: يا غلام اصفع، فصُفع. قال: بسمُ اللهُ، فقال: ويلك من صبّك على الرفع؟ قال: وكيف لا أرفع من رفع الله! فضحك وقضى حاجته.
قال: واختصم رجلان إلى عمر بن عبد العزيز فجعلا يلحنان فقال الحاجب: قُما فقد أوذيتما أميرُ المؤمنين. فقال عمر: أنت والله أشدّ أذاء إليّ منهما.
وعن أبي داود قال: أرسل المعتصم إلى أشناس فطلب منه كلب صيد فوجه به إليه فرده وهو يعرج. فكتب إليه أشناس بشعر قاله:
الكلب أخذت جيدٌ مكسور رجلٍ جبت
ردَّ جيدٌ كما كلبٌ كنت أخذت
فكتب إليه المعتصم:
الكلب كان يعرجُ يوم الذي به بعثت
لو كان جاء مخبراً خبّر رجلُ كلبٍ أنت
قال: وقال بشر المريسيّ وكان كثير اللحن: قضى لكم الأمراء على أحسن الوجوه وأهنؤها. فقال القاسم التمار: هذا على قوله:
إن سليمى والله يكلؤها ... ضنّت بشيءٍ ما كان يرزؤها
فكان احتجاج القاسم أطيب من لحن بشر.
قال: وكان زياد النبطي شديد اللكنة وكان نحوياً فدعا غلامه ثلاثاً فلما أجابه قال: فمن لدن دأوتك فقلت لي إلى أن جيتني ما كنت تصنأ، يريد دعوتك وتصنع. قال: ومرّ ماسرجويه الطبيب بمعاذ بن سعيد فقال: يا ماسرجويه إني أجد في حلقي بححاً، قال: هو من عمل بلغمٍ، فلما جاوزه قال: تراني لا أحسن أن أقول بلغم، ولكنه قال بالعربية فأجبته بخلافه.
وقال ثمامة: بكر أحمد بن أبي خالد يوماً يعرض القصص على المأمون فمرّ بقصة فلان اليزيدي وكان جائعاً فصحّف وقال: فلان الثريدي، فضحك المأمون وقال: يا غلام ثريدة ضخمة لأبي العباس فإنه أصبح جائعاً. فخجل أحمد وقال: ما أما بجائع يا سيدي ولكن صاحب القصة أحمق وضع على نسبته ثلاث نقطات كأثافي القدر، قال: دع هذا فالجوع اضطرك إلى ذكر الثريد والقدر. فجاؤوه بصحفة عظيمة كثيرة العُراق والودك فاحتشم أحمد. فقال المأمون: بحياتي عليك إلا عدلت نحوها، فوضع القصص ومال إلى الثريد فأكل حتى انتهى، فلما فرغ دعا بطشت فغسل يده ورجع إلى القصص فمرّ بقصة فلان الحمصي فقال: فلان الخبيصيّ. فضحك المأمون وقال: يا غلام هات جاماً فيه خبيص فإن طعام أبي العباس كان مثبوراً. فجعل أحمد وقال: يا أمير المؤمنين صاحب هذه القصة أحمق فتح الميم فصارت كأنها ثنتان. قال: دع عنك هذا فلولا حمقه وحمق صاحبه متّ جوعاً. فجاؤوه بجام فيه خبيص، فأتى عليه وغسل يده وعاد إلى القصص فما أسقط بحرف حتى فرغ.
حدثنا العباس بن جرير قال: كان للمهدي خصيّ كان معجباً فضمّ إليه معلماً نحوياً يعلّمه القرآن وكان الخصي عجمياً لا يُفصح فقال في هل أتى: يوماً عبوساً كمتريراً. وقال في الجن: نكعد منها مكاعد للسمع، فقال النحوي:
ولثقل الجبال أهون مما ... كلفوني من الخصيّ نجاح
نفّر النحو حين مرّ بلحيي ... هـ فألفيته شديد الجماح
قال في هل أتى فأوجع قلبي ... كمتريرا وكدّه بالصياح
وقال رجل من الصالحين: لئن أعربنا في كلامنا حتى ما نلحن لقد لحنّا في أعمالنا حتى ما نعرب. وأنشد في مثله:
أما تراني وأثوابي مقاربةٌ ... ليست بخزٍّ ولا من خزّ كتان
فإن في المجد همّاتي وفي لغتي ... علويةٌ ولسان غير لحّان
فهرست شلواح 1979: [23]